الجمعة 22 جمادى الأولى 1441هـ
الموافق 17 يناير 2020 م
الحمد لله تفرد بالحول والقدرة، وعظم فلا يَقْدُر أحدٌ قدرَه، خلق الإنسان من نطفة وأحصى عمره، وقضى عليه بالموت فأراه قبل مماته قبره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قلب وَجِل يترقب أن ينجو بها من سؤال الحفرة، ويدخرها ليستظلّ بها في ظل العرش يوم الحسرة، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فضمن له نصره صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، ومن سار على نهجهم وترسّم خطاهم فلم يتجاوزوا نهيه أو أمره، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوا الله رحمكم الله، فحياة الإنسان مراحل، والناس في هذه الحياة الدنيا ما بين مستعدٍّ للرحيل وراحل، وكلّ نفسٍ يدني من الأجل، ودقّات قلب المرء تباعد عن الأمل، فالكيِّس الحازم، من حاسب نفسه يوماً بيوم، وساعةً بساعة، فما ترون الناس إلاّ حيًّاً أدركته منيّته، فواراه الناس التراب، وصغيراً قريباً من سنَّ الشباب، وشابّاً امتدّت به الحياة حتى شاب، وشيخاً حان أجله فانتقل إلى العزيز الوهاب، ومن وراء الجميع نقاش وحساب، فهنيئاً لمن أحسن واستقام، والويل لمن أساء وارتكب الآثام، ويتوب الله على مَن تاب، وصدق الله (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)
معاشر المسلمين: ونحن نسير في دروب الحياة ، ونتقلب على هذه الأرض ، كم نحن بحاجة إلى وقفة روحانية، وقفة نجدد فيها الإيمان في القلوب، ونزيل عنها غبار الغفلة والذنوب. تعالوا بنا اليوم عباد الله، نؤمنْ ساعة، ونجلس مع أنفسنا جلسة تزكية ومصارحة، نتذكر فيها المصير المحتوم، الذي كتبه الله تعالى على جميع العباد، ونستلهم فيها شيئاً من العظات والعبر، نتذكر فيها الموت، الذي تشمئز منه كثير من النفوس، ولا تحب الحديث عنه عند ذكره، نذكر هذه الحقيقة، ونذكر بها أنفسنا، لعل الله تعالى أن يرقق بها قلوبنا، ويحسن ختامنا، ويجمعنا في غرفات الجنات بإذنه تعالى.
أيها المؤمنون: اعلموا رحمكم الله أن هذه الحياة الدنيا مهما امتدت وطالت وصفت، فمصيرها إلى الزوال، وإن هي إلا أعوام، وربما كانت أيام، وربما عدت لحظات، فيصبح المرء منا في حفرة ضيقة مظلمة موحشة وحيداً فريداً ليس معه أهل ولا أولاد ولا أصحاب ولا أموال، وكأنه لم ير الدنيا ولم تره، وقد ملئت الدنيا بالمشكلات والمنغصات والمصائب والكربات، ومرت أيامها بما فيها من خيرات ومسرات، فكم ضحكنا وكم بكينا وكم مرضنا وكم عوفينا، تقلبات مرت بنا كأن لم تكن.. إنها يا عباد الله لحقيقة قاسيه رهيبة، لا مناص منها، وقضية مسلمة لا بد منها تواجه البشر فلا يستطيعون لها رداً ولا دفعاً، حقيقة تتكرر كل لحظة، والناس سواء أمامها، يواجهها الرجال والنساء والأقوياء والضعفاء والآباء والأبناء والصغار والكبار، والمرؤوسون والرؤساء، والحكام والمحكومون، والعامة والعلماء، والأعيان والوجهاء، وأهل القوة والجبناء، يقفون منها موقفاً واحداً، إنها حقيقة النهاية والفناء والموت.. الموت الذي يفر منه من (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً) واللحظة والمشكلة في حياة كل إنسان، هي لحظة الموت والاحتضار، وسيرى ذلك عاجلاً أو آجلاً، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فعمر الإنسان مهما طال، وأيامه مهما تكاثرت، وماله مهما تنامى، وسلطانه ومنصبه مهما علا، ولباسه مهما غلا، لابد من يوم يقف البشر عنده أمام الله تعالى.
أيها الأخوة والأخوات في الله: ليلتان اثنتان يجب أن يجعلهُما كل مسلم في ذاكرته، ليلة في بيته مع أهله وأطفاله، متنعماً سعيداً في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، يضاحك أولاده ويضاحكونه، يلاعبهم ويلاعبونه، والليلة التي تليها مباشرة، ليلة أتاه فيها الموت فوضع في قبره وحيداً، فبينما الإنسان متمتعاً بصحته، منتفعاً بنعمة العافية، فرحاً بقوته وشبابه، فلا يخطر له الضعف على قلب، ولا الموت على بال، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرج، والكدر مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس ولا يُريحه حديث، قد سئم ما كان يرغبه في أيام صحته على بقاء في لبه، وصحة في عقله، يفكر في عمر وشباب أضاعه، يتذكر أموالاً جمعها، ومناصب تقلدها، ودوراً بناها وقصوراً شيدها وضياعاً جد وكد في حيازتها يتألم لدنيا يفارقها، ويترك أبناء وذرية ضعافاً يخشى عليهم الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يعجل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يجدي الدواء وحار الطبيب ويئس الحبيب، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) عند ذلك يتغير لونه، وتغور عيناه، ويميل عُنُقه وأنفه ويذهب حسنه وجماله، ويخرس لسانه، ويصير بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله من أهله وأولاده وأحبابه وجيرانه، وهم ينظرون ما يُقاسيه من كرب وشدة، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون،كما قال تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)، ثم لا يزال يعالج سكرة الموت، ويشتد به النزع وقد تتابع نفسه، واختل نبضه، وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثة هامدة، وجيفة بين أهله وعشيرته وقبيلته، قد استوحشوا الجلوس بجانبه، وتباعدوا من قربه، ومات اسمه، الذي كان يعرفونه به، كما مات شخصه الذي كانوا به يأنسون، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون : إن أكبر واعظٍ في حياتنا هو الموت الذي قدره الله على خلقه، وكتبه على عباده، وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام، فما من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازلٌ به، وخاضعٌ لسلطانه، يقول سبحانه: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) ويقول تعالى مخاطباً خير خلقه،(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ويقول صلى الله عليه وسلم: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هادم اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتِ) ويقول: (أتاني جبريل فقال يا محمد: عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَن شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ) وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ…) وعن عبد الله ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عَنْهُما قالَ: (أَخَذَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبَيَّ فقالَ يا أبن عمر: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ). وَكَانَ عبد الله ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرَضِك، وَمِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك…
أيها المؤمنون: الموت على وضوح شأنه، وظهور آثاره، سرٌ من الأسرار التي حيرت الألباب، وأذهلت العقول، وتركت الفلاسفة مبهوتين ، والأطباء مدهوشين، الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذكر في قوم إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العبرة، وأحسوا بالتفريط، وشعروا بالتقصير فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم، فنسيان الموت ضلال مبين، وبلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه امرئ إلا غوى، ولا يمكن علاج ذلك ولا التخلص منه إلا أن يتذكر الإنسان قول الله جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ويقول تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( فالكل مرجعهم إلى الله، ومردهم إلى الله، إن هذه الحقيقة يا عباد الله، لا يختلف فيها اثنان، ولكن من يتذكر هذه الحقيقة دائماً وأبداً هم الأقلون اليوم، فالحياة اليوم تزينت وتزخرفت، (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا) فقست القلوب، وشردت النفوس، وماتت الهمم، و أسدل ستار التفكر، وبات الناس يقضون أيامهم ولياليهم في استهلاك معطيات الحضارة لا الاستفادة منها فأغرتهم القصور، وأعجبتهم الدور، وأهمهم أمر الدينار والدرهم، فلأجله يروحون ويغدون ويجلسون ويقعدون ويوالون ويعادون، نسوا تلك الحقيقة الضخمة، والمصير المحتوم يقول عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ويقول: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكْرَامِ) ويقول: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) الموت في موعده المقسوم، وأجله المحتوم، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً) )فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فالآجال محدودة، والأنفاس معدودة، والآماد مضروبة، ثم نهاية محتومة فيحل في الساحة هادم الذات، ومفرق الجماعات، فأما إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار عياذاً بالله.
أيها المسلمون: إن المسلمين اليوم عددهم كثير، ولكن المعتبرين المتعظين منهم قليل، عشرات الجنائز نشيعها وندفنها، ولكن المتعظين قليل، الناس في غفلة، والموت يوقظهم وما يفيقون حتى ينفد العمر، يشيعون أهليهم بجمعهم، وينظرون إلى ما فيه قد قبروا، ويرجعون إلى أحلام غفلتهم، كأنهم لم ينظروا شيئاً، ألا نعتبر يا عباد الله بكثرة الراحلين، شباب في عمر الزهور ماتوا، وأطفال توسدوا التراب، كم من الموتى اليوم في حوادث السيارات، وفي موت الفجاءة والسكتات القلبية والأمراض المستعصية، كم من إنسان خرج من بيته فلم يعد إلى أهله، وأهله ينتظرونه، ولكن قد خرج منهم إلى مثواه الأخير، وهم لا يدرون وهو لا يدري ولم يدري إن ذلك الخروج هو آخر خطى يخطوها في هذه الحياة، إلى متى ونحن في غفلة ساهون نركض لأجل الدنيا ونسينا موعود الله وما عنده..
فيا من تركضون وراء الدنيا وتنسون القبر وما فيه، يا من تتثاقلون عن الصلاة وخصوصاً صلاه الفجر، يا من تبخلون بإخراج الزكاة من مال الله الذي خولكم..
يا من تغتابون وتنمون وتطعنون في أعراض الناس، وتكذبون وتلعنون وتظلمون، يا من تأكلون أموال الناس واليتامى بالباطل… يامن ترابون وتسرقون وتختلسون من الأموال العامة والخاصة.. يامن ترتكبون الفواحش والمنكرات، وتنشرون الفساد في البلاد والعباد، ألا رحماك ربنا رحماك… تذكروا رحمكم الله ساعة الاحتضار، تذكروا هجوم ملك الموت، فقد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، تذكروا ساعة الموت يوم يجمع الله الأولين والآخرين يوم الدين. وصدق الله العظيم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.. اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة يا ذا الجلال والإكرام.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إذا مات العبدُ وفاضتْ روحُه إلى باريها، وانتقل إلى ربِّه، فلن ينفَعَه بعد موتِه، إلا ما قدَّمه في حياتِه من أعمالٍ صالحة، وأمَّا إذا مات فقد انقطع عن العملِ، ولم يبقَ له إلا ما يعملُه أقاربُه من أعمالٍ صالحةٍ جاءت النُّصوصُ الشَّرعيةُ من الكتابِ والسُّنةِ النَّبوية الصَّحيحة بوصول ثوابِ ذلك إليه، وانتفاعه بذلك، ومن ذلك ما يأتي: أولاً: قضاءُ دينِ الميت: يقول صلى الله عليه وسلم:(نفسُ المؤمنِ معلَّقة بدَينه حتَّى يُقضى عنه) ففي هذا الحديث حثٌّ على التخلُّصِ من الدين قبل الموت، وأنَّه أهمُّ الحقوق، وإذا كان هذا في الدَّين المأخوذ برضا صاحبِه، فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً.. وسواء قضى الدين عنه ورثتُه مما خلفه من تركةٍ، أو من غيرِ ذلك، أو أسقطهُ عنه صاحبُ الدَّين نفسُه، أو تبرَّع أحدُ النَّاس بقضائه عنه. ثانياً: الإسراعُ في تجهيزِ الميت: يقول صلى الله عليه وسلم: (أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) ومن ذلك غسله، وتكفينه، والصلاة عليه، ثُمَّ دفنه. ثالثًا: الصَّلاة على الميت: يقول صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ امرئ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيه).. رابعاً: الدعاء للميت: ويتأكد ذلك في أحوال عدة: منها: عند إنزالِه في قبرِه ووضعِه فيه، وبعد الفراغِ من دفنه، وعند زيارته في المقبرة، ويتأكَّد الدُّعاءُ للميت: في حقِّ من كان له فضلٌ عليهم؛ من زوجةٍ وأولاد، ذكوراً كانوا أو إناثًاً – وما أشبه ذلك.. وكذلك دعاء المسلمين له خاصهم، وعامهم، لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).. خامساً: قضاء الصِّيام عن الميت: فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنَّ أمي ماتت وعليها صومُ شهرٍ أفأقضيه عنها؟ قال: (نعم) قال: (فدين الله أحقُّ أن يقضى).وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه) ويجوز الإطعام عن الميت، إذا كان فطره لعذر، ويطعم عن كل يوم مسكين..
سادساً: الوفاء بنذر الميت إذا كان في طاعة، فإذا مات قبل الوفاء بنذره، وجب على ورثته الوفاء به ويخرج من تركته، فإن لم يكن له مال، فيستحب لأبنائه أن يقضوه عنه، فقد روي أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقْضِهِ عَنْهَا) ..
سابعاً: الصَّدقة عن الميت: فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أمي افتلتت نفسها (أي ماتت)، وإنِّي أظنُّها لو تكلمت تصدقت، فلي أجرٌ أن أتصدَّقَ عنها؟ قال: (نعم) قال أهل العلم: وفي هذا الحديثِ: جوازُ الصَّدقة عن الميت واستحبابها، وأنَّ ثوابَها يصله وينفعه، وينفع المتصدِّق أيضاً، وهذا كلُّه أجمع عليه المسلمون) ويقول صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)
ثامناً: الحج والعمرة عن الميت: فقد جَاءَتْ امْرَأَةً إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ) وذلك يكون بعد أن يحجَّ الإنسانُ عن نفسِه حجَّ الفريضة… نسأل الله تعالى أن يرحم في هذه الدنيا غربتنا، وعنـد المــوت كربتنـا، وفي القبور وحدتنا ووحشتنا، اللهم ارحمنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.
اللهم ارحمنا إذا يئس منا الطبيب، وبكى علينا الحبيب، وتخلى عنا القريب والغريب، وارتفع النشيج والنحيب… اللهم ارحمنا إذا أتانا اليقين، وعرق منا الجبين، وكثر الأنين والحنين.. اللهم ارحمنا إذا اشتدت السكرات، وتوالت الحسرات وأطبقت الروعات، وفاضت العبرات وتكشفت القوى والقدرات…
اللهم ارحمنا إذا أقمنا للسؤال، وخاننا المقال، ولم ينفع جاه ولا منصب ولا مال ولا عيال، وقد حال الحال فليس إلا فضل الكبير المتعال.
اللهم انقلنا بعد الموت من مواطن الدود، وضيق اللحود إلى جنة الخلود، (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) مع الذين أنعمت عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًاً)
اللهم اغفر لنا ولموتانا وموتى المسلمين، واغفر لآبائنا وأمهاتنا وأهلينا وأحبابنا وأصحابنا، ويمن كتابنا، ويسر حسابنا وثقل بالحسنات ميزاننا، وثبت على الصراط إقدامنا واسكنا في أعلى الجنات في جوار نبيك ومصطفاك وآله وصحبه يا ذا الجلال والإكرام.. اللهم إنَ لنا أحباباً قد فقدناهم، وفي التُراب وسدَناهم، اللهم فاجعل النور في قبورهم يغشاهم واكتُب يا ربنا الجنة سُكناهم، واكتُب لنا في دار النعيم لُقياهم، إنك مولانا ومولاهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، اللهم وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد ، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وسدد على طريق الخير خطاهم، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم فرج همهم ونفس كربهم، اللهم أصلح أحوالهم وألف بين قلوبهم، واحقن دمائهم، وصن أعراضهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلا…. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمدا وعلى آله وصحبه أجمعين…
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ويغفر الله لي ولكم.
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين