عدنان بن عبد الله القطان
20 صفر 1444هـ – 16 سبتمبر 2022 م
—————————————————————————
الحمد لله الذي هدى الأمة إلى دين الإسلام، وبيَّن لهم فيه الأحكام، نحمده سبحانه يكرِم من يشاء برحمته ويدخلهم الجنة دار السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمةً للأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأبرار الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: من القواعد المقرَّرة، أن كثرة المسميات للمسمَّى، تدل على شرفه وفضله، وعلوِّ درجته ومنزلته، وأهميته وعِظَم شأنه، وكل ما عظُم شأنُه تعدَّدَتْ صفاتُه وكثُرت أسماؤه، وتنوَّعت أوصافُه، وهذا كان معروفًاً عند العرب، ألا ترى أن السيف عندما عظُم عندهم موضعه، وتأكَّد نفعُه، وظهر موقعُه، جمعوا له خمسمائة اسم، وانظر على سبيل المثال، أسماء الكبير المتعال، وكذا رسوله المفضال، تعددت له الأسماء وصفات الأفعال، وكم من سور لها من الأسماء والبيان، بل الفاتحة كم لها من الأسماء والتبيان.
عباد الله: والقيامة لما عظُم أمرها، وكثُرت أهوالها، واشتدَّ خَطْبُها، سمَّاها الله في كتابه بأسماء عديدة تحذيراً وإنذاراً، تنبيهاً وإعذاراً، ووصفها بأوصاف كثيرة؛ منها: اليوم الآخر، يوم البعث، يوم الخروج، يوم الفصل، يوم الدين، يوم الحسرة، يوم الخلود، يوم الحساب، يوم الآزفة، يوم الجمع، يوم التلاق، يوم الوعيد، يوم التناد يوم التغابن وسمَّاه بالساعة والقارعة والصآخة والواقعة والغاشية.
في هذا اليوم عباد الله شدائد وأهوال، السماء انفطرت ومارت وانشقت وكُشطت وطُويت، والجبال سُيِّرت ونُسفت ودُكَّت، والأرض زُلزلت ومُدَّت وألقَتْ ما فيها وتخلَّتْ، الوحوش حُشِرت، البحار فُجِّرَتْ وسُجِّرَتْ، الأمم على الرُّكَبِ جثَتْ، وإلى كتابها دُعيت، الكواكب انتثرت، والنجوم انكدرت، والشمس كُوِّرت ومن رؤوس الخلائق أُدنيت، الصُّحُف نُشِرَتْ، والموازينُ نُصِبَتْ، والكتب تطايرت، الألوان تغيرت لما رأت، الفرائص ارتعدت، القلوب بالنداء قُرعت، والموءودة سُئلت، والجحيم سُعِّرت، والجنة أُزلفت، عظُم الأمر، واشتد الهول، والمرضعة عما أرضعت ذهلت، وكلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملها وضَعَتْ، زاغت الأبصار وشخصت، والقلوبُ الحناجرَ بلغَتْ، وانقطعت علائقُ الأنسابِ، قال الله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) لكن مع ذلك هناك جوانب مضيئة في ذلك اليوم للسعداء والموفقين والأتقياء، فلهم حال وأحوال متعددة؛ ولهم فرحة وأفراح متنوعة؛ تشوقنا إلى ذلك اليوم، وتستحق منا هذه الجوانب أن نُلقي عليها بعض الأضواء، فمع فرحة المؤمنين نعيش في هذه الدقائق المعدودة وكم من أفراحٍ تنتظر المؤمنَ يومَ القيامة، نسأل الله التوفيق والسداد ودخول الجنة دار السلام.
أيها المسلمون: تبدأ أفراح المؤمنين في ذلك اليوم، حينما يُبعَثون من قبورهم، وهم يرون هذه الأحداث تتغير لا يخافون، ولا يفزعون عندما يفزع الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، الناسُ كلُّهم في خوف إلا أهل الإيمان فإنهم (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) فعندما يبعثون من قبورهم تستقبلهم الملائكة تُهدِّئ من روعهم وتطمئن قلوبهم، يقـول الله جل وعلا: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
والفزع هو: شدة الهلع والخوف الذي يحصل للعباد، والفزع الأكبر هو ما يُصيبُ العبادَ عندما يبعثون من القبور؛ أي: لا يخافون من الفزع الأكبر، وهو أهوال يوم القيامة.
أيها الإخوة والأخوات في الله: تبدأ أفراح المؤمنين في ذلك اليوم يناديهم منادي الرحمن مطمئناً لهم: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) ويقول لهم: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) وسِرُّ هذا الأمن أن قلوبهم كانت تخاف ربها في الدنيا، فقاموا من ليلهم وأظمئوا نهارهم واستعدوا ليوم الوقوف بين يدي الله، كما قال تعالى مخبراً عن مقالتهم: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) ومن كانت هذه حاله وقاه الله شر ذلك اليوم: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم (يقول الله عزَّ وجلَّ: وعِزَّتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع عليه خوفين، إن هو أَمِنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمَّنته يوم أجمع فيه عبادي).
ومن الأعمال التي جعل الله عاقبتها الأمن من الفزع الشهادةُ في سبيل الله، والرباط في سبيل الله؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (للشهيدِ عندَ اللهِ خصالٍ عدة ذكر منها: يُغفرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرى مقعدَهُ منَ الجنةِ، ويُجارُ منْ عذابِ القبرِ، ويأمنُ منَ الفزعِ الأكبرِ، وهذا هو الشاهد يأمن من الفزع الأكبر) وفي رواية: (وبعثه اللهُ يومَ القيامةِ آمناً من الفزع).
أيها الأخوة الأخوات في الله: وتحقيق توحيد الله عز وجل وطاعته من أعظم أسباب الأمن في الدنيا والآخرة يوم القيامة، يقول تعالى: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ويقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)
عباد الله: ويعْظُم فرح المؤمنين حين يظلهم الله في ظل عرشه مع الأمن؛ أي: هم آمنون والشمس تغلي، فالأمن يحتاج إلى نوع من الراحة، فالله أراحهم بأن أظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمامٌ عادلٌ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) وَقالَ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللّهَ تعالى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي) ومن الذين يظلهم الله يوم القيامة أيضاً: من أنظر مُعسِراً، أو وضع عنه؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللّهُ فِي ظِلِّهِ)... وأما قارئ سورة البقرة، و سورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان عليه يوم القيامة كأنهما غمامتان تدافعان عنه؛ يقول رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: (اقْرَءوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ، اقْرَءوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَأُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) أي لا يَقْدِر على تحصِيلِها حفظاً وتلاوةً أصحابُ البطالةِ والكسل لطولهِا، فهي لذوي الهمّة العالية، وقيل البطلة السحرة، لأن ما يأتون به باطل، سماهم باسم فعلهم الباطل، أي: لا يؤهَّلون لذلك، أو لا يوفّقُون له.
أيها المؤمنون: ويأتي المتصدق في ظلِّ صدقته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنما يستظلُّ المؤمنُ يومَ القيامةِ في ظلِّ صدقته) وقال: (المرءُ في ظلِّ صدقتِه حتَّى يُقضَى بين النَّاسِ) وتعظم الفرحة حين يأتي أهل الإيمان وجوههم بيضاء مستنيرة، قال الله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) ومسفرة: قيل: مشرقة، وقيل: مضيئة، وقيل: مستنيرة، وكلها معانٍ متـقاربة.. يأتي المصلون المتوضئون يوم القيامة غُرًّاً مُحجَّلين من آثار الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أمتي يدعون يومَ القيامةِ غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء)؛ والمراد: النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الغرة وذلك التحجيل يكونان للمؤمن حليةً يومَ القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)؛ وهي مزية لهذه الأمة المحمدية دون غيرها، وفي رواية: (لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ)
أيها المؤمنون: وتعظم فرحة المؤمن حين يلقى الكريمَ سبحانه، ويقف بين يدي أرحم الراحمين، الذي ادَّخر تسعاً وتسعين رحمةً يرحم بها عباده يوم القيامة، ينادى على رؤوس الخلق، يا فلانَ ابن فلان هلُمَّ إلى العرض على الله، فيتقدم للقاء ربِّ العزة والجلال، ويقترب منه، يقول رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ، قال: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأنَا أغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ) أيُّ فرحةٍ أيها الإخوة، وأيُّ سعادةٍ يشعر بها العبدُ في هذه اللحظة.. حين (يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) فما أعظمَه من سرور حين يأخذ كتابه بيمينه! لأنه كان من أهل اليمين، كان يمشي على الطريق الصحيح المستقيم، ولم يكن يعكس السير ويخالف، يأخذ كتابه بيمينه فيطلقها صرخة في العالمين من الفرح ويقول: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)
حريٌّ بكل مسلم ومسلمة عرف قيمة فرحة الدار الآخرة أن يشمر، ويسعى لها سعيها بالأعمال الصالحة، والطاعات والقربات؛ من صلاة وصيام وصدقة وإحسان وقرآن؛ فيا طالباً سلعةَ الرحمن، لا تقتل فرحة الآخرة وسعادتها الأبدية السرمدية بلذة طائشة، وشهوة عابرة.
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ ونعوذُ بكَ منَ النَّارِ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ ونسألُكَ أن تجعلَ كلَّ قضاءٍ قضيتَهُ لنا خيراً يا ذا الجلال والإكرام.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ونشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد فيا أيها المسلمون: فما زلنا مع أفراح يوم القيامة فنقول: وللمؤمن فرحةٌ بالغةٌ حين يقف أمامَ الصراط وتحتَ الصراطِ نارُ جهنم والناس يَهْوُونَ فيها على وجوههم، فيعبُرُ العبدُ الصالحُ كلمح البصر وكالبرق، وكالريح- يتفاوت المؤمنون بحسب أعمالهم- وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن آخِر عبدٍ يعبر الصراط إلى الجنة فذكر، (رجلاً يمشي على الصِّراطِ ، فهوَ يمشي مرَّةً، ويكبو مرَّةً، وتسفعُهُ النَّارُ مرَّةً ، فإذا جاوزَها التفتَ إليها، فقال : تباركَ الَّذي نجَّاني منكَ، لقد أعطاني اللهُ شيئاً ما أعطاهُ أحداً مِن الأوَّلينَ والآخرينَ هذه فرحةُ آخِر رجلٍ يعبُر على الصراط، فكيف بفرح السابقين.. عباد الله: ومن أعظم لحظاتِ السعادة والسرور والفرح والحُبور حين يُساق المؤمنون إلى الجنة، تَزُفُّهم الملائكة زمراً جماعاتٍ جماعاتٍ، يأخذُ بعضُهم بأيدي بعض، ضع نفسك يا عبد الله في هذا المقام وأنتَ تسير إلى الجنة مع عباد الله الصالحين قد انتهى الحساب وأَمِنْتَ مِنَ العذاب وليس بينك وبين نعيمِها إلا لحظات؛ فينادي جل في علاه المؤمنين نداءَ تهنئةٍ ونداءَ تكريمٍ ونداءَ توقيرٍ ونداءَ تبشيرٍ، قال جل وعلا: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فما أعظم هذا النداء! نداءٌ بفوزٍ أبديٍّ في نعيم الجنة، والقرب من الرحمن، ونيل رضوانه، ورؤية وجهه الكريم، وحسبك هذا النعيم، ويا له من نعيم باقٍ إلى أبد الآبدين في جنة رب العالمين! ويصِلُ المؤمنون إلى أبواب الجنة، فيجدونَها مغلقةً موصدة، فيزدحمون عليها وقد بلغ الشوق بهم ما لا يطيقون، كلهم ينتظر اللحظة التي تُفتَح فيها الأبواب ويتقدم سيدُنا وسيدُ الخلق محمدٌ صلى الله عليه وسلم من بين الجموع، يأخذ حلقة الباب، فيَقْرعُهُ، فيَسألُ خازنُها: من أنت؟ فيقول: محمد، فيقول خازنُ الجنة: بك أُمِرْتُ ألَّا أفتحَ لأحد قبلَك فيَفتح له. وها هي أبواب الجنة تتحرك وتكشف عما وراءها (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)
ويِعْظُم فرح المؤمن، وتزداد الفرحة عندما تكون ضيفاً مرغوباً، أنت واهلك، وتسمع نداءً خاصًّاً (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وعندما تنظر خلفك وترى ذريتك تتبعك لمشاركتك فرحتك (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)
وهنا: تبدأُ حياةُ النعيمِ الخالد الذي لا ينتهي، ولا يقل، ولا يُكَدِّرُه شيء، شبابٌ لا يَبلى، وقوةٌ لا تضْعُف، وصحةٌ لا يعتريها مرض، سعادة لا ينغصها فقد حبيب، ولا موت قريب.
ستكون في غاية الفرح وأنت تمشي ولأول مرة في زمرة المرضي عنهم، ويتقدمك النبي محمد صلى الله عليه وسلم (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
لن تكون قادراً على إخفاء نضارة وجهك السعيد عندما يكون رفيقك هناك النبي محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وعيسى ونوح وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) هناك ستتذكر ما تلوته هنا (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)
عباد الله: هذه بعض أفراح المؤمنين يوم القيامة؛ فاستعدوا لحياة سرمدية، رزقنا الله وإياكم ووالدينا جميعاً وكل من له حقٌّ علينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين الفردوس الأعلى برفقة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع لنا ولكم وللمسلمين فرح الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب الدعاء.
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ مِنَ الخيرِ كلِّهِ عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا منهُ وما لم نعلَمْ، ونعوذُ بِكَ منَ الشَّرِّ كلِّهِ عاجلِهِ وآجلِهِ، ما عَلِمْنا منهُ وما لم نعلَمْ.
اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ من خيرِ ما سألَكَ منه عبدُكَ ونبيُّكَ محمد وعبادك الصالحون، ونعوذُ بِكَ من شرِّ ما عاذَ بِهِ عبدُكَ ونبيُّكَ محمد وعبادك الصالحون، اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ الجنَّةَ وما قرَّبَ إليها من قَولٍ أو عملٍ، ونعوذُ بِكَ منَ النَّارِ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عملٍ، ونسألُكَ أن تجعلَ كلَّ قَضاءٍ قضيتَهُ لي خيراً.
اللهم يا أوفى من وعد، ويا أبصر من راقب، ويا أسرع من حاسب، ويا أرحم من عاقب، ويا أحسن من خلق، ويا أحكم من شرع، ويا أحق من عُبد، ويا أولى من دعي، نسألك الفردوس الأعلى من الجنة يارب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم آمنَّا في وطننا، وفي خليجنا، ووفق ولاة أمورنا، وأيِّد بالحق ملكنا حمد بن عيسى ووليَّ عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وهيِّئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، ووفِّقهم لما تحب وترضى، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع والمآب.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.. اللهم انصر عبادك المستضعفين المظلومين في كل مكان وكن لهم ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين. اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي -عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين