عدنان بن عبد الله القطان
25 جمادى الآخرة 1443 هـ – 28 يناير 2022 م
—————————————————————————-
الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن آله وأزواجه وأصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى :(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: العبادة بغير نية تعب وعناء، والنية بلا إخلاص رياء، والإخلاص من غير اتباع بطلان وهباء، ورأس مال العبد نَظَرُه في حقوق ربه عز وجل، ثم نَظَرُه هل أتى بهذه الحقوق على وجهها الصحيح أم لا.
عباد الله: فعلُ الطاعات وأداء العبادات فيه كُلْفة، فقد يلاقي العبدُ بعضَ المشقة في أدائها، لكن الأهم من ذلك كله -يا عبد الله- المحافَظة على هذه الطاعات، والحرص على هذه العبادات حتى لا تذهب هباء، ولا تضيع سُدًى، فترى العبدَ يحافظ على الصلوات الخمس، مع المسلمين في مساجدهم، ويصوم ويحج ويعتمر ويزكي ويصل الرحم، ويعمل أعمال الخير والبر، ثم يستحوذ عليه الشيطان الرجيم فيُوقِعُه في المحبِطات والمبطِلات لأعماله فيذهب تعبه، ويخسر آخرته عياذاً بالله.
أيها الأخوة والأخوات في الله: مُحبِطات الأعمال هي أشد ما ينبغي الحذر منه، والتنبه له، والإحباط هو إبطال الحسنات بالسيئات، ومن المحبطات ما يُحبِط العملَ كلَّه؛ من الكفر والشرك والردة والنفاق الأكبر الاعتقادي عياذاً بالله، وهذا هو الإحباط الكلي، ومنها إحباط جزئي لا يذهب بالإيمان، ولكنه قد يُحبِط العبادةَ التي يقترن بها، وقد يترقَّى إلى الإحباط الحقيقي، نسأل الله العافية، وقد قال الله عز وجل في الكفر وأهله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وقال عز شأنه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال في الشرك: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ) وتأملوا هذا الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقول عز شأنه: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وحاشا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن يشرك، حاشاه أن يشرك، لكنه التحذير العظيم، والإنذار المخيف من الشرك والقرب منه.
وقد قال الله في مقام آخر في سياق ذِكْر الأنبياء، وفيهم أولو العزم عليهم جميعاً صلوات ربي وسلامه، قال سبحانه: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وحاشاهم ثم حاشاهم، ولكنه الخوف العظيم من الشرك والاقتراب منه، والتحذير من وسائله وذرائعه، وحفظ جناب التوحيد وإفراد الله وحدَه بالعبادة وصَرْف جميع أنواع العبادة له وحدَه لا شريكَ له، أما الردة -نعوذ الله منها- فيقول الله عز وجل: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).. عباد الله: ومن مُحبِطات الأعمال مُشاقَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمره، وفي التنزيل العزيز: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) ومثل المشاقَّة رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال رب العزة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) وقد ذكر أهل العلم، أن هذا قد يحصل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فإذا كان المسلم في مسجده صلى الله عليه وسلم أو في زيارة قبره فعليه أن يخفض صوته، وإذا كان في حديث أو في نِقَاش وهو في المسجد النبوي الشريف فعليه مراعاة ذلك كله، ومما يُروَى أن الخلفية أبا جعفر المنصور تناظَر مع الإمام مالك؛ إمام دار الهجرة رحمهم الله جميعاً وهما في المسجد النبوي، فقال مالك للخليفة: (لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا؛ فإن الله تعالى أدَّب قوماً فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) ومدحهم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وذمَّ قوماً فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) والملاحظ في هذه الآية الشريفة أن الله سلب عقل مَن أساء الخطاب معه، فحكم عليه بأنه لا عقل له، ثم قال مالك: وإن حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حَيًّاً)، فاستكان لها أبو جعفر أي خضع وذل وسلم.
ومن لطيف ما قرره أهل العلم في ذلك أن هذا الأدب ينبغي أن يكون حين قراءة حديثه وسماعه صلى الله عليه وسلم فقد قالوا: إن كلامه المأثور بعد موته مثل كلامه المشهور من لفظه).
ومن المحبِطات للأعمال عبادَ الله: السخريةُ بالدِّين وأهله، يقول الحق جل وعلا: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) وكذلك كراهية شيء من الدين، وقد قال عز شأنه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) وهذا باب عظيم ينبغي للمسلم أن يحذَر منه، وبخاصة حينما لا يوافِق الشرعُ هواه ورغباته، أو يقع في نفسه نفرةٌ منه؛ فيُخشى عليه حبوطُ عمله، ولهذا كان من الذِّكر الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم ويداوم عليه: (رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا)، يقول ذلك ثلاث مرات في الصباح وفي المساء.
عباد الله: ومن المحبِطات للأعمال إتيان الكهان والسحرة والعرَّافين والمنجِّمين، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ أتى عرَّافاً فصدَّقَه بما يقول فقد كفَر بما أُنزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم) وفي الحديث الآخَر: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَه عن شيءٍ لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِين ليْلة) قال أهل العلم: سؤال الكهان يَمنَع قبولَ الصلاة أربعينَ ليلةً، وتصديقهم بما يقولون يُوقِع في الكفر عياذاً بالله.
أيها المؤمنون: الذَّهاب للعرَّافين والمنجِّمين وتصديقهم والعمل بما يقولون قدحٌ في التوحيد، وإذا ذهَب توحيدُ العبد فماذا بقي له؟ وقد دخَل المشعوِذون والكهنةُ القنوات الفضائية، وقنواتِ التواصل وأدواته، فلبَّسُوا على الناس وغرَّرُوا بهم، فالحذرَ الحذرَ رحمكم الله من التواصل معهم.
عباد الله: ومن المحبِطات للأعمال: التّألّي على الله، ومعنى التألي على الله: الحلف والقسم والجزم على الله تعالى بأنه لا يغفر لفلان أو أنّه لن يدخله الجنة، واستبعاده الخير عن أخيه المسلم، فقد صح في الحديث: أنَّ رَجُلًا قالَ: واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وإنَّ اللَّهَ تَعالَى قالَ: مَن ذا الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ) أو كما قال.
عبادَ اللهِ: مَنْ رأى في نفسه صلاحاً واستقامةً فليحذر أن يحتقر أحداً من المقصِّرين المذنبينَ، أو أن ينظر لهم بعين الازدراء والاحتقار، وينظر إلى نفسه بعين الرضا والإعجاب، فهذا مَورِدٌ من موارد الهلاك عظيم، نسأل الله السلامة، وعليكَ أيها الناصح لنفسه بكسب القلوب، لا بتسجيل المواقف.
أيها المسلمون: ومن المحبِطات للأعمال حفظنا الله وإياكم الرياء، ففي الحديث يقول الله تعالى في الحديث القدسي: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عَمِلَ عملاً أشرَك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكَه) فالحذرَ -رحمكم الله- الحذرَ من تطلُّب ثناء الناس ومراءآتهم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلاً غَزَا يلتمس الأجرَ والذِّكْرَ. ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيءَ له، فأعادها ثلاثَ مراتٍ، يقول صلى الله عليه وسلم: لا شيءَ له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه)
فما تقرَّب عبدٌ قُرْبةً يتطلب بها ثناءَ الناس إلا وقد عرَّضها للحبوط والبطلان وحرمان ثوابها، يوم تُبلى السرائر، وتُفْشَى النيات ويفضح المراؤون، وقد ابتلي أهل هذا العصر بهذه الأدوات المعاصرة، فترى بعض الناس يذكر أعماله من خلالها، ويذكر ما قدَّمه لإخوانه من دعوات، وأعمال صالحات، والمطلوب هو الدعاء بظهر الغيب؛ فالحذر الحذر، حفظكم الله. اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم.
عباد الله: ومن المحبِطات للأعمال: حفظك الله وحماك، انتهاك محارم الله في السر: فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لَأَعْلَمَنَّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبانُ: يا رسول الله، صِفْهُم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألَّا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أمَا إنهم إخوانُكم ومن جِلْدَتِكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خَلَوْا بمحارم الله انتهكوها) فكأن هؤلاء المساكين راقَبُوا الناسَ ولم يراقبوا اللهَ، فجعلوا اللهَ أهونَ الناظرين لهم، وهو الذي يعلم السر وأخفى، وصدق الله العظيم: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًاً) وبعدُ عبادَ اللهِ: فقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ قال: لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، أولئك الذين يسارِعونَ في الخيراتِ وهم لها سابِقونَ) فتسابَقُوا رحمكم الله في الخيرات، وتنافَسُوا في الصالحات. واحذر يا عبدَ اللهِ أن توافي ربَّكَ يومَ القيامة بأعمال صالحة أمثال الجبال، ثم لا تنفعك؛ لأنك قد تهاوَنْتَ وتساهلتَ، فأقدمتَ على ما يُذهِب ثوابَها وحسناتها وأجرها، فكيف تنجو؟ وتذكَّرْ هذا الوعيدَ: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم أحسن خواتيمنا، وأحسن أعمالنا وأقوالنا ونياتنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم يا ذا الجلال والإكرام.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، ونشهد أنّ نبينا محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: ومن المحبِطات للأعمال قطيعة الرحم؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ) وقاطعُ الرحمِ مستحِقٌّ لِلَّعْنِ، ففي كتاب الله عز وجل قال عز شأنه: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يَدْخُل الجنةَ قاطعُ رحمٍ) وقال علي بن الحسين لولده يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواطن. وكان عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه جالساً بعد الصبح في حلقة فقال: (أُنْشِدُ اللهَ قاطعَ الرحمَ لَمَا قام عنا؛ فإننا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتَجَّة؛ -أي: مغلقة- دون قاطع الرحم)… أيها المؤمنون: ومن المحبِطات المهلِكات للأعمال انتهاك حقوق الناس، وظلمهم في الأقوال والأعمال، إن ظلم الناس والاعتداء عليهم من أعظم ما يفسد عمل الصالحات، لأن حقوق الناس، مبنية على العدل والمقاصة بينهم. من أكل مال مسلم أو هتك عرضه بقول أو فعل أو هضمه حقاً كان له، فالموعد هناك عند القنطرة حين يكون القصاص وأخذ الحقوق، ويكفي وعيداً في ذلك، حديث المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد شتَم هذا، وقذَف هذا، وأكَل مال هذا، وسَفَكَ دمَ هذا، وضرَب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرِحَ في النار) فالتعامل يومَ القيامة ليس بالدرهم ولا بالدينار ولا بالذهب والفضة ولكنه بالحسنات والسيئات، فمن عندَه لأخيه مظلمة فليتحلله منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ)
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المحبِطات للأعمال كثيرة، يجب الحذرُ منها، وعدم التهاون فيها، فالابتداع في الدين مبطِل للعمل، محبِط للأجر، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ) و (ومَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ). (ومن لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه)، (ومن ترَك صلاةَ العصر فقد حبط عمله)، ومن شرب الخمر لم تُقبَل له صلاة أربعين صباحاً)، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب، ومدمِنُ الخمرِ لا يدخل الجنةَ) بذلك صحت الأحاديث عن نبيكم صلى الله عليه وسلم.. وتأمَّلوا رحمكم الله فيما يُحبِطُ الأعمال، ويأكلُ الحسنات أو ينقص الإيمان ويضعفه: من الحسد، والرياء، والسُّمعة، والغِيبَة، والنَّميمة، والكِبر، والظُّلم، والعُجب، وأكل الحرام، وتقطيعِ الأرحام، والإسرافِ في المآكل والمشارِب والولائِم والمطاعِم، وإدمان السهر على غير طاعة الله عز وجل ،والإغراق والانهِماك في وسائل الإعلام ومواقع التواصُل بما لا يُفيد، والتكلُّف في تصنيفِ الخلق؛ مما يضعف الإيمان والأبدان، ويُهلِكُ القلوب، ويُفسِدُ العقول ويُشقِي النفوس، ويُشغِلُ عن الطاعة ويصرِفُ عن النافع ويُبعِدُ عن الجادَّة ويُضيِّعُ المسؤوليَّات.
نسال الله بمنه وكرمه، أن يتقبل صالح أعمالنا وأن يتجاوز عن سيئها، وأن يتغمدنا برحمة منه وفضل، إنه جواد برٌّ رؤوف رحيم .
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.. اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ منه عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم. وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ووفقهم للعمل الرشيد والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..
اللهم ارفع عنا البلاء والوباء والكورونا، وعاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بمن نحن أهله، أنت أهل التقوى والمغفرة. اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تحرمنا خير ما عندك، بسوء وشر ما عندنا يارب العالمين.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم موتانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين.