عدنان بن عبد الله القطان
25 شعبان 1444 هـ – 17 مارس 2023 م
————————————————————————–
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، يضاعف ثواب الحسنات، ويقي من الشرور والمكروهات، نحمده سبحانه ونشكره على تتابع الخيرات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المؤيَّد بالمعجزات، السابق إلى جميع الفضائل والمكرمات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى :(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: أعداءٌ كُثرٌ للإنسان؛ من شياطين الإنس والجان، يُحَسِّنُون القبيحَ ويُقبِّحون الحسن، يدعونه للشهوات، ويسهِّلون له المنكر فيقع بالذنوب ويكثر منها. يغلقون أمامه أبواب الأمل، ويدخلُونَه دائرة اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته، فيأتيه ما يُذكِّرُه بالتوبة مرجعاً وملاذاً لتنقذه من اليأس والعذاب، برحمة رب الأرباب، الذي ليس بينك وبينه واسطة ولا باب.
جاء ببعض التفاسير: أن موسى عليه السلام خرج بقومه يستغيثون بعد قحطٍ طويلٍ أصابهم، فدعوا الله أن يغيثهم، فما زادت السماء إلا تقشفاً؛ فقال موسى: (يا رب دعوناك فلم تغثنا، قال الرب: يا موسى إن فيكم عبداً بين أظهركم يبارزني بالمعصية منذ أربعين سنة، فالتفت موسى إلى قومه، فقال: يا أيها الذي تبارز الله بالمعصية منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا. فتلفت ذلك العاصي لعلّ أن يخرج أحد غيره فما خرج فقال: إن خرجت افتضحت، وإن بقيت هلكت وهلك قومي، فقال: يا رب عصيتك أربعين سنة، وأنا أستغفرك وأتوب إليك (الآن) فاغفر لي يا أرحم الراحمين فنزل المطر مدراراً، فقال موسى: يا رب نزل المطر ولم يخرج من بين أظهرنا أحد؛ فقال الله الرحمن الرحيم: يا موسى سُقيتكم بالذي منعتكم به؛ حين تاب توبة صادقة. فقال موسى: ربِّ أرني أنظر إليه. قال: يا موسى عصاني أربعين سنة، أيوم يتوب إليَّ أفضحه؟ الله أكبر إنه الله العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فتح لعباده أبواب التوبة، ودلَّهم على الاستغفار، وجعل لهم من أعمالهم الصالحة كفارات، وفي ابتلاءاتهم مُكفرات، بل إنه سبحانه يبدِّل سيئاتهم حسنات، وهذه التوبة وسعة رحمته، يقول جل وعلا: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً)
أيها الأخوة والأخوات في الله: لقد جعل الله التوبةَ ملاذاً مكيناً بلا واسطةٍ يأتيه المذنب معترفاً بذنبه، مؤملاً في ربه، نادماً على فعله، غيرَ مُصرٍ على خطيئته، يحتمي بحمى الاستغفار، يُتبع السيئةَ الحسنةَ؛ فيكفرُ الله عنه سيئاته، ويرفع من درجاته… التوبة الصادقة عباد الله تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى الكفر والشرك، يقول تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) والذين أشركوا بالله وجعلوا له الشريك والولد، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، يناديهم المولى سبحانه قائلاً: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فتح ربكم أبوابه لكل التائبين، يبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا. يُخاطبكم: (يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ) ويقول الله تعالى: (قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ويقول: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) ومن ظن يا عباد الله أن ذنباً لا يتسع لعفو الله فقد ظنَّ بربه ظن السوء. فكم من عبد كان عاصياً مذنباً، فمنَّ الله عليه بتوبةٍ مَحَت عنه ما سلف فصار صوّاماً قوّاماً قانتاً لله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه!
فيا أيها المؤمن: إذا تدنَّست بشيءٍ من الذنوب والمعاصي؛ فبادر بغسلهِ بماءِ التوبة والاستغفار؛ فإنَّ الله يُحب التوابين ويحب المتطهرين. صح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فذكر مثل الأول مرتين أخريين حتى قال في الرابعة، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ) يعني ما دمت على هذه الحال كلما أذنبت ذنباً استغفرت منه، غير مُصرٍ على فعل المعصية، فإن الله يتوب عليك.
وصحّة التّوبة موقوفة على الإقلاع عن الذّنب والنّدم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته)
يأتي رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله! أحدنا يذنب، قال: (يُكْتَب عليه)، قال: ثم يستغفر منه قال: (يُغفر له ويُتاب عليه)، قال: فيعود فيذنب قال: (يُكْتَب عليه). قال: ثم يستغفر منه ويتوب قال: (يُغْفَر له ويُتاب عليه، ولا يَملُّ الله حتى تَملُّوا) وسئل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن العبد يذنب؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: حتى متى؟ قال حتى يكون الشيطان هو المحسور.
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ
بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
وَما لي حيلَةٌ إِلّا رَجائي
وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي
فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا
وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَنِّ
إِذا فَكَّرتُ في نَدَمي عَلَيها
عَضَضتُ أَنامِلي وَقَرَعتُ سِنّي
يَظُنُّ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي
لَشَرُّ الناسِ إِن لَم تَعفُ عَنّي
وقيل للحسن البصري رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: (وَدَّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذا، فلا تملوا من الاستغفار).
عباد الله: وبعد التوبة والاستغفار تأتي الأعمال الصالحة من فرض وتطوع تُكفَّرُ بها السيئات، وتُرْفَع بها الدرجات؛ طهارة وصيام وصدقات وحج وجهاد وغيرها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (مَن تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إلى بَيْتٍ مَن بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَاتَه إحْدَاهُما تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً). ويقول: (الصَّلواتُ الخَمسُ والجُمعةُ إلى الجُمعةِ كفَّاراتٌ لِما بينَهنَّ ما لَمْ يَغْشَ الكبائرَ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (مَن تَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أتَى الجُمُعَةَ، فاسْتَمع وأَنْصَتَ، غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ، وزِيادَةُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ) والعمل الصالح باب واسع لا يُحصَر؛ من طلب الرزق وإطعام الطعام، وحسن الخلق، والسماحة في التعامل، وطلب العلم، وقضاء الحوائج، وحضور مجالس الذكر، والرحمة بالبهائم، وإماطة الأذى عن الطريق، كلها تزيد في توبة الإنسان وتكفير السيئات، فأبشروا وأملوا وأحسنوا الظن بربكم.. يُضَاف إلى ذلك -يا عباد الله- ما يصيب المسلم من البلايا في النفس والمال والولد، وما يعرض له من مصائب الحياة ونوائب الدهر، فهي كفارات للذنوب، ماحيات للخطايا، رافعات للدرجات يصاب الإنسان بالمرض والبلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بها عنْه، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها).. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ) أيها المسلمون: العبدُ إذا اتجه لربه بعزم صادق وتوبة نصوح موقناً برحمة ربه واجتهد في الصالحات دخلت الطمأنينةُ قلبَه وانفتحت أمامه أبواب الأمل، واستعاد الثقة بنفسه، واستقام على الطريقة، واستتر بستر الله، فأين من يريد التوبة؟ فهذا بابها مفتوح، وموسمها قارب الدخول، وهي بكل وقتٍ دخولها مسموح. عباد الله: من الناس من يخدعه طول الأمل، أو طيش الشباب، وزهرة النعيم، وتوافر النعم، فيُقدم على الخطيئة، ويُسوِّفُ في التوبة وما خدع إلا نفسه، لا يفكر في عاقبة، ولا يخشى سوء خاتمة. وقد يأتيه أمر الله بغتة، يقول تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)
ومن الناس من إذا أحدث ذنباً سارع بالتوبة قد جعل من نفسه رقيباً يبادر بغسل الخطايا إنابةً واستغفاراً وعملاً صالحاً، فهذا حَرِيّ أن ينضم في سلك المتقين الموعودين بجنة عرضها السماوات والأرض ممن عناهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك. اللهم مغفرتك أوسع لنا من ذنوبنا وعفوك أقرب من غضبك ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا؛ فاغفر لنا وتب علينا يا أرحم الراحمين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الرحيم بعباده، الذي أسبَغ على الناس النِّعمَ، وحذّرهم النّقم، وشكر لهم الطاعات، ودعاهم إلى التوبةِ من السيئات، يحبّ العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له الحليم القدير، ونشهد أنّ سيدنا ونبيّنا محمّداً عبده ورسوله البشير النذير والسِّراج المنير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: إن الله سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة، ويسَّر طُرق الأَوْبَة، ورغَّب فيها، وشوَّق إليها، ووعد من تاب وأناب بقبوله وتبديل سيئاته حسنات، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) وقال سبحانه: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) ومن أجل التوبة إليه سبحانه رغَّب في الجنة وما فيها، ورهَّب من النار وما فيها، ولغايةِ الخضوع والرجوع إليه جل في علاه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، فأقام الحجة، وأوضح المحَجَّة، ليهلك من هلك عن بيّنة، ويحيى مَن حيَّ عن بينة.
ومن الدلائل على صفحه وحلمه جل وعلا أنه لا يُنْزِل العقوبة على من أذنب إثر ذنبه مباشرة، بل يُمْهل ويستر ويُنْظِر، لعل المذنب يتوب، ولعل الآبق يؤوب، قال سبحانه: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) لأن الله يريد للناس المتاب لا العذاب، والله عز وجل ما فرض الفرائض وشرع العبادات إلا للاعتراف بنعمه والثناء عليه والدخول في سلك التائبين المنيبين السائرين في طريقه السالكين إليه.
أيها المسلمون: ها هو شهر رمضان المبارك شهر التوبة والرجوع إلى الله، يحلُّ قريباً بالساحات -وحَقٌّ على المسلم أن يعرف ويستغل شرف الزمان والمكان-؛ فاستعدوا واجتهدوا، فما أكرمَ الله أمة بمثل ما أكرم به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
في رمضان: ذنوب مغفورة، وعيوب مستورة، ومضاعفة أجور، وعتق من النار، فأكرموا هذا الوافد العظيم وجاهدوا النفوس بالطاعات، ابذلوا الفضل من أموالكم في البر والصلات، استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله، جددوا العهد مع ربكم، وشدّوا العزم على الاستقامة، فكم من مؤمّل بلوغ رمضان أصبح رهين القبور!… عباد الله: رمضان مناسبة كريمة يمنحها الكريم لعباده كي يغتنموها لإصلاح ما فسد من تدينهم، وتجديد ما بَلِي من إيمانهم، وتقويم ما اعوَجَّ من سلوكهم، وتطهير ما ران على قلوبهم، وللإكثار من الصالحات؛ ليكون ذلك رصيداً يُكمِّل لهم ما يعتري أعمالهم خلال السنة من نقص أو تقصير، فإذا أضاع المسلم هذه الفرص وحُرِم مما يتاح فيها من الخيرات والبركات وأضاع ما يمكن أن يربح فيها من الصفقات فهو محروم مهموم مَغْبون، وأي حرمان بعد هذا؟! وبئس المحروم مَن حُرِم مِن فضل الله الدافق الرائق. فها هو عباد الله من طالت غيبته قد قرب، فيا غيوم الغفلة تقشعي، ويا قلوب المشفقين اخشعي، ويا جوارح المهتدين اسجدي لربِّك واركعي، وبغير جنان الخلد -أيتها الهمم العالية- لا تقنعي، فطوبى لمن أجاب وأصاب، وويلٌ لمن طُرد عن الباب.
اغتنم أخي المسلم أختي المسلمة اغتنموا رمضان بالتوبة وطلب الغفران إذا كنت مدمناً لذنب ومعصية أو ملازماً لعادة ذميمة فلتتب منها قبل رمضان ولا تضيع أول الشهر من توبة نصوح، فباب أرحم الراحمين دوماً مفتوح، وخيره يغدو ويروح.
اللهم بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه واقبلنا فيه، وتقبله منا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنا، واجعلنا مجتمعين غير متفرقين، مغفوراً لنا إن كنا مذنبين برحمتك وعفوك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة وكفّر عنا سيئاتنا، وأجزل حسناتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم. وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا..
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع أحمد الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين