عدنان بن عبد الله القطان
10 صفر 1443 هـ – 17 سبتمبر 2021 م
—————————————————————–
الحمد لله الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً،نحمده سبحانه توعد الظالمين باللعنة وأليم العقاب في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أخبر أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، صلى الله عليه وعلى اله وصحبه ومن تمسك بسنته وأقام شريعته، ورفق بعباده إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
معاشر المسلمين: لقد جاء ديننا الإسلامي الحنيف بمبادئ سامية، تهذب النفوس وتحميها، وتصلح الأفراد والمجتمعات وتهديها، حيث أقام المجتمع السليم، وبين لكل فرد فيه حقوقه وواجباته، حرم الدماء والأموال والأعراض، وأرسى مبادئ الأخوة في الله، لئلا تضيع الحقوق وتعم الفوضى،وتنتشر الخصومات والمنازعات، وكان أبرز المعالم في تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي، أنه مجتمع تسوده المحبة والوئام، وترفرف على جنباته معاني العدل والسلام، بعيداً عن الظلم والطغيان، والتسلط والبغي والعدوان، حتى تحمى بيضة المجتمع، ويصان نظامه، ويتماسك عقد وحدته وتعاونه، وما من شيء أخطر على المجتمعات من تفشي الظلم فيها، وهل دكت الحصون، وأزيلت العروش، وأصبح بعض الناس كالذئاب والوحوش، وأسقطت الأنظمة والدول، وقوضت الحضارات، وقامت الثارات، إلا بسبب الظلم، وتحكم الأقوياء في رقاب الضعفاء، فالظلم يا عباد الله وخيم المرتع، سيء العواقب، مؤذن بهلاك الديار، جالب للعار والشنار، معرض صاحبه لدخول النار وبئس القرار،(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْظَّالِمِيْنَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيْثُوْا يُغَاثُوَا بِمَاءِ كَالْمُهْلِ يَشْوِيْ الْوُجُوْهَ بِئْسَ الْشَّرَابُ وَسَاءْتْ مُرْتَفَقَاً) وما حرم الإسلام شيئاً كالظلم، ولا توعد الله أحداً بمثل ما توعد به الظالمين، يكفي الظالمين ذلاً ومهانة وخزياً وندامة، دخولهم تحت لعنة الجبار جل جلاله،(أَلَا لَعْنَةُ الْلَّهِ عَلَىَ الْظَّالِمِيْنَ) وَحِرْمَانُهُمْ مِنْ الْهِدَايَةِ، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِيَ الْظَّالِمِيْنَ) ولشناعة الظلم يا عباد الله وقبحه وخطورته، نزه الله نفسه عنه، وحرمه عليها، يقول عز وجل: ( وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (وَمَا الْلَّهُ يُرِيْدُ ظُلْما لِّلْعِبَادِ) (إِنَّ الْلَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) (إِنَّ الْلَّهَ لَا يَظْلِمُ الْنَّاسَ شَيْئا وَلَكِنَّ الْنَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُوْنَ) وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يَا عِبَادِيَ إِنِّيَ حَرَّمْتُ الْظُّلْمَ عَلَىَ نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلَا تَظَالَمُوْا) فأعلم الله تعالى عباده في هذا الحديث العظيم أنه حرم الظلم على نفسه، قبل أن يجعله محرماً بين عباده. وأخبر عز وجل أن من الناس من هو كثير الظلم لنفسه ولغيره فقال سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوْا نِعْمَةَ الْلَّهِ لَا تُحْصُوْهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُوْمٌ كَفَّارٌ)، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف، فقال في خطبته يوم عرفة: (أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيْ شَهْرِكُمْ هَذَا فِيْ بَلَدِكُمْ هَذَا) وقال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوْا الْظُّلْمَ، فَإِنَّ الْظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَقَالَ فِيْمَا يَرْوِيْهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: (الْمُسْلِمِ أَخُوْ الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ).. وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله، فقال جل ذكره: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الْلَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الْظَّالِمُوْنَ) فالله تعالى للظالمين بالمرصاد، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْلَّهَ لَيُمْلِي لِلْظَّالِمِ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)، ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىَ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيْمٌ شَدِيْدٌ). والظلم يا عباد الله من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات والدول قال الله تعالى: (الَّذِيْنَ آَمَنُوَا وَلَمْ يَلْبِسُوَا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُوْنَ) فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء، فالجزاء من جنس العمل،(وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)…
أيها المسلمون: الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها، وصوره كثيرة، ووسائله متعددة، وأنواعه متكاثرة، ودرجاته متفاوتة، أكبرها وأخطرها وأشدها وأشنعها ظلم الناس لخالقهم بإنكار وجوده، أو نسبة الخلق والرزق لغيره، أو الاستهزاء بذاته أو دينه أو رسله أو كتبه، أو الإشراك به فيما هو من خصائصه؛ قال تعالى:(وَالْكَافِرُوْنَ هُمُ الْظَّالِمُوْنَ) وقال: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فمن مات على الشرك بالله تعالى خلَّدَه الله في النار أبَداً كما قال عزّ وجلّ: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) وأي ظلم أقبح وأعظم من أن يجعل العبد لله نداً وهو خلقه، أو يتوجه لغير الله في طلب المنافع ودفع المضار، ولا يملك ذلك إلا الله وحده،(ذَلِكُمُ الْلَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُوَنَّ مِنْ دُوْنِهِ مَا يَمْلِكُوْنَ مِنْ قِطْمِيْرٍ، إِنْ تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوْا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوْا مَا اسْتَجَابُوْا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُوْنَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيْرٍ) وَقَالَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُوَ لِلَّهِ نِداً دَخَلَ الْنَّارَ) وصح في الحديث القدسي أن الله سبحانه وتعالى قال: (عُجْبَاً لَكِ يَا بْنَ آَدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي! -أَيُّ مَا عَدَلْتَ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ- خَلَقْتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِيّ، وَرْزَقْتُك وَتَشْكُرُ سِوَايَ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالْنِّعَمِ وَأَنَا غَنِيٌ عَنْكَ، وَتَتُبِغضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِيْ وَأَنْتَ فَقِيْرٌ إِلَيَّ، خَيْرِيّ إِلَيْكَ نَازِلٌ وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ)
أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن أنواع الظلم، ظلم العبد لنفسه، وذلك بارتكاب الذنوب والمعاصي على اختلاف أجناسها، فمن فعل شيئاً منها فقد ظلم نفسه حيث عرضها لسخط الله وعقوبته، وهذا النوع من الظلم تحت المشيئة إن شاء الله غفر لصاحبه وإن شاء عذبه به، قال تعالى : (إِنَّ الْلَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُوْنَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِالْلَّهِ فَقَدِ افْتَرَىَ إِثْما عَظِيْما)… أيها المؤمنون: ومن أنواع الظلم، مظالم تقع بين الخلق في حقوق لبعضهم على بعض، تعدوا فيها، وأخذها بعضهم من بعض، ووقعوا في ظلم بعضهم لبعض، فهذه مظالم لا يغفرها الله إلا بأداء حقوق العباد، فيؤدي الظالم حق المظلوم في الدنيا، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوْق قِبَلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا دِرْهَمَ فِيْهِ وَلَا دِيْنَارَ، إِنَّمَا هِيَ الْحَسَنِاتُ وَالْسَّيِّئَاتِ، يُعْطَىَ الْمَظْلُوْمُ مِنْ حَسَنَاتِ الْظَّالِمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُوْمِ وَوُضِعَتْ عَلَىَ الْظَّالِمِ، ثُمَّ طُرِحَ فِيْ الْنَّارِ). وَقَالَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَاً لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُوْنَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوْا: الْمُفْلِسُ فِيْنَا يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِيْ مَنْ يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِيَ قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فيعطى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِيْ الْنَّارِ).
لا تَظْلِمَنَّ إذَا ما كُنتَ مُقْتَدِراً
فالظلم يرجعُ عُقْبَاهُ إلى النَدَمِ
تنامُ عيناكَ والمظلومَ مُنْتَبِهٌ
يدعو عليكَ وعينُ الله لم تَنَمِ
والمظالم بين العباد تكون في الدماء، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَا يَزَالُ الْمُسْلِمُ فِيْ فُسْحَةٍ مِنْ دِيْنِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً). وتكون المظالم في الأموال، وذلك بأكل أموال الناس بالباطل وأكل أموال اليتامى، وأخذها ظلماً وعدواناً، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ) وقال صلى الله عليه وسلم : مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ).. وتكون المظالم باقتطاع الأراضي والعقارات، قال عليه الصلاة والسلام: (مَّنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الْأَرْضِ طَوَّقَهُ الْلَّهُ إِيَّاهُ مَنْ سَبْعِ أَرَضِيْنَ).. وتكونُ المظالمُ بين الأقارب والأرحام بتضييع حقوق الرحِم، وتكون المظالم بين الوالدَيْن والأولاد بتضييع حقوقهم وإهمال تربيتهم، وعدم العدل بينهم، وتعريضهم للانحراف وسوء الأخلاق، وتكون المظالم بين الأولاد ووالديهم بعقوقهما وعدم البر بهما، وبين الزوجين بترك حق كل منهما على الآخر، وتكون المظالم بين المستأجرين والعمال بسبب سلب حقوقهم وتكليفهم ما لا يطيقون والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أَعْطُوْا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ). وقد وقع من بعض الناس هضم لبعض العمال لمنعهم حقوقهم أو التحايل عليها أو تأخيرها، وذلك ظلم شنيع يخرب البيوت، ويمحق بركة المال وينذر بعقوبات لا طاقة للإنسان بها.. وقد تكون المظالم بالتعدي على أعراض الناس، ويشمل ذلك سائر الفواحش القولية والفعلية المتعلقة بالأعراض، فالزنا ووسائله، وإيذاء المسلمين بالسب والشتم، والزور والبهتان والكذب والقذف، والدعاوى الكيدية وما أكثر الذين يمتطون صهوة هذا السبيل، ويسلكون طريقه، لا يتورعون عن الغيبة والنميمة ونسبة الإفك والباطل إلى البرءاء والصلحاء حسداً من عند أنفسهم، فلا يظنن الظالم أنه مفلت من قبضة الله، فالله يمهل ولا يهمل، (وَإِذَا دَعَتْكَ قُدْرَتِكَ إِلَىَ ظُلْمٍ الْنَّاسِ فَتُذَكِّرَ قُدْرَة الْلَّهِ عَلَيْكَ) وليعلم الظالم أن الله سبحانه سينتقم لهؤلاء المظلومين، الذين يصبحون ساخطين عليه، ويمسون داعين عليه، وسهام الليل من المظلومين نافذة، وقذائف الدعاء منهم على ظالميهم مستجابة،في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُوْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْلَّهِ حِجَابٌ) وفي الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وَدَعْوَةُ الْمَظْلُوْمِ يَرْفَعُهَا الْلَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَقُوْلُ: وَعِزَّتِيْ وَجَلَالِي لَأَنْصرُكِ وَلَوْ بَعْدَ حِيْنٍ) ألا فليهنأ المظلومون بذلك، وليكف الظلمة عن ظلمهم، أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: أن الوزير العباسي خالد بن برمك وولده لما أفسدوا وظلموا، سجنا وأذلا، بعد المنصب والعز، قال الولد لأبيه : يا أبتي بعد المنصب والعز والجاه صرنا في القيد والحبس، فقال: يا بني: هذه دعوة مظلوم سرت بليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها. وكان أحد علماء السلف يقول: (مَا هَبَّتُ أُحُدْاً قَطُّ هَيْبَتِي رَجُلاً ظَلَمْتُهُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا نَاصِر لَهُ إِلَّا الْلَّهُ، يَقُوْلُ: حَسْبِيَ الْلَّهُ بَيْنِيْ وَبَيْنَكَ) وفي بعض الآثار: إن الله سبحانه يقول: أشتد غضبي على من ظلم من لم يجد له ناصراً غيري… فاتقوا الله عباد الله واحذروا مظالم العباد، وتحللوها فيما بينكم، واتقوا ظلم بعضكم لبعض في دم أو مال أو عرض أو حق من الحقوق، فإن الله تبارك وتعالى قائم على كل نفس بما كسبت، ويجزيها يوم القيامة بما عملت، وتقول لك، (اقْرَأْ كِّتَابَكَ كَفَىْ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيْباً)
سَتَعْلَمُ يَا ظَّلُوْمُ إِذَا الْتَقَيْنَا
غَداً عِنْدَ الْمَلِيْـك مْـنَ الْمَلُومَ
أَمْـا وَالْلَّه إِنَّ الُظَـلَمْ شَـؤُمّ
وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الْظَّلُومُ
إِلَىَ دَيَّـانِّ يَوْمٍ الْدِّيْنِ نَمْضِيَ
وَعِنْدَ الْلَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُوْمُ
تَـنَامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ الْمَـنَايَا
تَنْـبِهِ لِلْـمنْيَةَ يَا نِـؤُوَمُ
اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نزل، أو نضل أو نضل، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا، بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
نفعني الله وإياكم بالقران العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: يجبُ علينا أن نعلمَ، أن التسلُّط على الخلقِ وظُلمَهم، مسلكٌ يُؤدِّي بصاحبه إلى أشنعِ حالٍ وأسوأِ مآلٍ، سنةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتحوَّلُ، وإن مصارعَ الظلمَة في القديمِ والحديثِ لأصدقُ برهانٍ، وأعظمُ بيانٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ... إن دعوةَ المظلوم سهامٌ لا تُخطِئ، وسلاحٌ على الظالمِ لا يُبقِي وإن طالَ الدهرُ، يقول صلى الله عليه وسلم: دعوةُ المظلومِ تُحمَلُ على الغَمام، وتُفتحُ لها أبوابُ السماوات، ويقول الربُّ جل وعلا: وعزَّتي، لأنصُرنَّكِ ولو بعد حينٍ). وإن من سُوء عاقبةِ الظلمِ أن دعوةَ المظلومِ مُستجابةٌ حتى ولو من الفاجرِ أو الكافرِ؛ يقولﷺ: (لا تُردُّ دعوةُ المظلومِ ولو كان فاجِراً ففُجورُه على نفسه)..
فاتَّقِ الله يا من تظلم الناس ولا تُقيمُ لدماءِ المُسلمين حُرمة، ولا لأعراضهم صيانة، ولا لأموالهم وزناً وحماية. فيا مَن تظلِمُ وتبطِشُ! تذكَّر موقِفَك بين يدَي الله جل وعلا، واخشَ على نفسِكَ من دعوةِ صالحٍ تسري بليلٍ والناسُ نِيامٌ، إن لم تكن خائفًاً من موقفِكَ من الله جل وعلا. فإن بعضَ الناس إنما يخافُ على نفسه في الدنيا، ولهذا جعل الله له زاجِراً في دنياه قبل أُخراه؛ روي أن رجلاً من المعادين لذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، زمن الفتنة، حلف أن يلطم وجه عثمان إذا رآه، فلطم وجهه: فذهَبَت امرأةُ عُثمان – تدعُو عليَّه، قائلة: يبَّسَ الله يدَكَ، وأعمَى بصرَك، ولا غفرَ لك ذنبَكَ. قال: فو اللهِ ما خرجتُ من البابِ حتى يبَسَت يدِي، وعمِيَ بصري، وما أرى اللهَ أن يغفِرَ لي ذنبِي. وذكروا أن رجلاً سب الإمام عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه فنهاهُ سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، فلم ينتَهِ عن ذلك، فقال سعدٌ: أدعُو الله جل وعلا عليك. فدعَا عليه، فما برِحَ حتى جاءَ بعيرٌ نادٌّ فخبَطَه حتى ماتَ. وذكر أن رجلاً من قتلة الحسين بن علي رضي الله عنه رماه بسهم ومنع عنه الماء، فدعا عليه الحسين قائلاً: اللهم أظمِئْهُ. فروئي هذا الرامي وهو عند موته في الاحتِضار وهو يصيحُ من الحرِّ في بطنِهِ، ويقول أسْقُوني أهلكَني العطشُ، أصابتني دعوة الحسين، ثم انقدَّ بطنُهُ ( أنشق) كانقِداد البَعير...وروي عن الصحابي سعيد بن زيد رضي الله عنه أنه كان مجاب الدعوة، أدعت عليه امرأة عند الوالي بأنه ظلمها وأخذ أرضها، فحضر عند الوالي وقال: أتراني ظلمتها وقد سمعت رسول الله يقول: (مَنِ اقْتَطَعَ شِبْراً مِنَ الْأَرْضِ ظُلْماً طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ) اللهم إن كانت كاذبة، فلا تمتها حتى تعمي بصرها، وتجعل قبرها في بئرها، ومرت الأيام، فلم تمت حتى ذهب بصرها، وبينما كانت تمشي في دارها وقعت في بئرها فكانت قبرها.
والقصص في ذلك كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. فيا مَن ينسَى دعوةَ المظلوم! لتكُن مثلُ هذه الأمثِلَة زاجِراً لك ورادِعاً لنفسك عن ظُلم الخلق في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.. يا مَن تظلِمُ الناسَ! أعلم، إن الظالمَ تدورُ عليه الدوائرُ، وتحُلُّ به المثُلاتُ وإن طالَ الدهرُ، وامتدَّ الزمانُ؛ يقول صلى الله عليه وسلم: إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْهُ، ثم قرأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) فيا مَن تظلِمُ الناسَ في أموالهم فتأخُذها قهراً، أو تمنَعُ دَيناً، أو تحبِسُ حقًّاً، يا مَن يُماطِلُ الناسَ في أموالهم! اسمَع هذه المواعِظ، وكُن لنفسِك خيرَ واعِظٍ قبل أن تحُلُّ بك دعوتُهم، وتُحيطَ ببدنِكَ أو مالِك أو ولدك عاقبةُ نجواهم لخالقهم.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نزل، أو نضل أو نضل أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا. اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في
قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين…
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلا والرِّبا والزِّنا والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ عن بلدِنا
البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم وفتياتهم ونسائهم ورجالهم يا سميع الدعاء،
اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً.. اللهم أحفظ المسجد الأقصى، وفك الحصار عنه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا واغفر لنا ولوالدينا ولأمواتنا وأموات المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين