الجمعة 5 جمادى الأولى 1440هـ
الموافق 11 يناير 2019م
الحمد لله العلي القدير، السميع البصير، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وهو اللطيف الخبير، علم ما كان وما يكون، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وهو العزيز الغفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة في يوم النشور، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن على طريقتهم يسير وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فيا سعادة من اتقاه، ويا فوز من خافه في سره ونجواه، ويا فلاحَ من لم يزل بطاعته قائماً، وعن معصيته متجنباً ومتباعداً. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: الضمير، هو تلك القوة الروحية، التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره، وهو منحة من الله تعالى للإنسان، يدله بها على الخير والشر، وكيف يكسب الرضا والراحة النفسية. ولهذا فقد ضَربَ اللهُ تعالى مثلاً بيوسفَ عليه السلام، حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى، فقال سبحانه على لسانه: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)
عباد الله: إن الدول والحكومات والشعوب والمجالس البرلمانية، لتسن القوانين والدساتير، وتوجد التشريعات، وتحدد العقوبات التي تكفل لها ولأفرادها الحياة الطيبة والآمنة، فتحفظ الحقوق، وتنجز الأعمال، وتؤدي الواجبات، وتكافح الجرائم والمفاسد، ويعيش الفرد فيها، ينظر عندما يقدم على عمل ما، إلى موقف القانون والعقوبة المترتبة على ذلك، فإذا وجدت وسائل الرقابة البشرية التزم بذلك، وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرب ويتحايل على هذا القانون… أما في شريعة الإسلام الربانية إلى جانب ما شرعته من أحكام وحدود وعقوبات، فإنها سعت لتربية الفرد المسلم على يقظة الضمير، والخوف من الله ومراقبته، وطلب رضاه، حتى إذا غابت رقابة البشر، وهمت نفسه بالحرام والإفساد في الأرض، تحرك ضميره الحي يصده عن كل ذلك، ويذكره بأن هناك من لا يغفل ولا ينام ولا ينسى، يحكم بين عباده بالعدل، ويقتص لمن أساء وقصر وتعدى في الدنيا والآخرة،وهو القائل سبحانه :(وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) وقال تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)
أيها المسلمون: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا، قَدْ دَرَسَتْ(أي ضاعت) لَيْسَ بينهما بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْكُمْ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، يَأْتِي بِهَا أسْطَاماً (وهي الحديدة التي تسعر بها النار) فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا : حَقِّي لِأَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (أَمَّا إذْ فَعَلْتُمَا فَاذْهَبَا وَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ أستهما، ثم لِيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ) نعم عباد الله: فقد حرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوسهما الإيمان، وارتفع بهما إلى مستوى رائع من التربية الوجدانية، وبناء الضمير، والتهذيب الخلقي للفرد؛ فكانت هذه التربية وبناء الضمير حاجزاً لهما عن الظلم والحرام، وهو الدافع إلى كل خير، فتقوى الله ومراقبته دليل على كمال الإيمان، وسبب لحصول الغفران، ودخول الجنان، وبه يضبط السلوك والتصرفات، وتحفظ الحقوق وتؤدى الواجبات، حتى وإن غابت رقابة البشر ووسائل الضبط وقوانين العقوبات والجزاءات، فتقوى الله ومراقبته والخوف منه والاستعداد للقائه أقوى في نفس المسلم من كل شيء، يقول تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ، وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ، وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
عباد الله: إن المرء لينظر في حياة الناس اليوم فيجد عجباً عجاباً، مشاكل وصراعات، وتهاجر وقطع أرحام، وغمطاً للحقوق، وتنكراً للمعروف على أتفه الأسباب، بل إنك تجد من يكون سبباً في شقاء المجتمع؛ بسبب سوء أخلاقه وتصرفاته، يستغل المواقف، ويتحين الفرص، ليشبع رغباته، ويحقق شهواته على حساب القيم والأخلاق والدين، ومصالح الآخرين، ومنافع العباد… وما وصل الناس إلى هذه الأمور إلا بسبب غياب الضمير الإيماني الذي يهذب الأخلاق، ويقوم اعوجاج السلوك، ويكون سبباً في صلاح النيات، وقبول الأعمال، وكثرة العبادات والطاعات، بل إنه يورث الخوف من الله والخشية من عذابه وسخطه، يقول تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) ويقول عز وجل:(إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ،أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
أيها المسلمون: لقد عين أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عينه قاضياً على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله ! ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين…نعم! عرف كل مسلم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه وزاروه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون ويشتجرون ويتنازعون؟..
عباد الله: إن تربية الضمير، وتقوية الوازع الديني في نفوس الناس، فيه سعادة الأفراد والمجتمعات والدول، وبدونه لن يكون إلا مزيداً من الشقاء والتعاسة، مهما تطورت الأمم في قوانينها ودساتيرها، وطرق ضبطها للجرائم، وإدارة شؤون الناس، فإنه سيأتي يوم وتظهر ثغرات في هذه القوانين، وبالتالي ما الذي يمنع الموظف أن يرتشي أو يسرق أو يختلس، والكاتب أن يزور ويدلس، والجندي أن يخل في عمله، والطبيب أن يهمل في علاج مريضه،ما الذي يمنع المعلم أن يقصر في واجبه، والقاضي أن يظلم في حكمه، والمرأة أن تفرط بواجبها، والتاجر من أن يغش ويحتكر ويدلس في تجارته، ما الذي يمنع المسلم في أن يتعاطف مع المستضعفين المظلومين في العالم الإسلامي، وما الذي يمنع المحرض في أن يدعو إلى زعزعة الأمن في بلاده، والمغرر به في أن يقوم بالعنف والإرهاب والتفجير وأذية العباد.. ما الذي يمنع هؤلاء من تلك المنكرات والمخالفات والجرائم، إذا لم يكن هناك ضمير يمنع، ودين وإيمان يردع.
هذا عثمان بن عفان رضي الله عنه – في عام الرمادة، وقد اشتد بالمسلمين الفقر والجوع، جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب، فجاءه تجار المدينة، وقالوا له: تبيعنا ونزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان لهم: لقد بعتها بأكثر من هذا، فقالوا: نزيدك الدرهم بخمسة؟ فقال لهم عثمان : لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة، فقالوا له: فمن الذي زادك؟ وليس في المدينة تجار غيرنا؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه: لقد بعتها لله ولرسوله، فهي لفقراء المسلمين.. الله أكبر.. ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي، لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموالاً طائلة، ولو كانت على حساب البطون الجائعة، والأجساد العارية، وآهات المرضى والثكالى، وهموم أصحاب الحاجات.. إنها ضمائر متصلة بالله، فأين ضمائرنا نحن؟ أين قيمنا؟ أين أخلاقنا ؟ في زمن الغاية فيه تبرر الوسيلة؟.. إنه مهما خوف الناس، وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر، فإنها تسقط أمام رقابة الذات، ورقابة الله عز وجل.. وما تغيرت الحياة، وحدث البلاء، ووجدت الخيانة، وانتشر الظلم والتظالم، إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر، وأصبح جسد الإنسان خاوياً من الضمير الحي والقيم النبيلة..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله: إن ضمير الإنسان إذا لم يكن موصولاً بالله، وصاحبه محافظاً على العبادات والطاعات، والذكر وقراءة القرآن، فإنه سيأتي يومٌ يموت فيه هذا الضمير أو يعرض للبيع في سوق الحياة… وعندما يباع الضمير ستجد ذلك الصاحب والصديق الذي ائتمنته على مالك قد خان الأمانة، وتنكر لك.
عندما يباع الضمير، ستجد من يعطيك شهادة تعليمية دون أن تدرس يوماً واحداً، وستجد شاهداً باع ضميره، وزور أحداث شهادته، وحول الظالم إلى مظلوم، والمظلوم إلى ظالم، واختل واقع الحياة، وضاع مصير الإنسان.
وعندما يباع الضمير ستجد الطبيب الذي يهمل فحص مرضاه في المستشفى ليضطرهم للذهاب إليه في عيادته الخاصة، بل ستجد من يخون أمته، ويبيع وطنه، ويدمر مجتمعه ووطنه.. وعندما يباع الضمير أو يغيب من النفوس تهمل الواجبات، وتضيع الحقوق والأمانات، ويوسد الأمر إلى غير أهله، وتظهر الخيانات، وتحاك المؤامرات، وتقدم المصالح الشخصية الضيقة على مصالح المجتمع والأمة. فلنحذر من الغفلة، وبيع ضمائرنا، ولنتذكر قوة الله وقدرته وعلمه.
وما أتعس ذلك الإنسان عديم الضمير والوازع الديني، عندما يخلو بمحارم الله فينتهكها، فلا يردعه دين ولا خلق، وإن أظهر من أعمال البر والخير ما أظهر، فيحرم التوفيق في الدنيا والثواب في الآخرة؛ لأن ضميره لم يكن مع الله عز وجل.
عَنْ ثَوْبَانَ مولى رسول اللّه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، حتى لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)
ألا فاتقوا الله عباد الله وزكوا أنفسكم، وراقبوا ربكم، وهذبوا أخلاقكم، وأحيوا ضمائركم، ورَبُّوها على عَمَلِ الخيرِ، والبعدِ عن كلِّ شر، تسعدوا في حياتكم، وتنالوا الخير والرضا من ربكم، وينتشر الخير في مجتمعكم ووطنكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يهدي لنوره من يشاء، ويحي القلوب الميتة بوحي السماء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فطر الناس على دين قيم سواء،ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نقى الله قلبه وصفى ضميره، فكان سيد الأصفياء،صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: الضميرُ هو ذلكم الشعورُ الإنسانيُّ الباطنيُّ، الذي يجعلُ المرءَ رقيباً على سُلوكه، ولديه الاستِعدادُ النفسي ليميزَ الخبيثَ من الطيب في الأقوال والأعمال والأفكار، واستِحسان الحسن، واستِقباح القبيح.. والإسلامُ في صَميمه شريعةٌ حُرَّةٌ قد حرَّرَت العبادَ من عبادة العباد إلى عبادة الله وحدَه، ودلَّت على أن العزَّة مع الإيمان، والذلَّة والدُّون مع الكُفر والفُسوق والعِصيان.
عباد الله: لقد عانَت المُجتمعات المُسلِمة في هذا العصر من غيابِ الضمير الحيِّ الواعِي، ذلكم الضميرُ الذي عوَّدَهم في غابرِ الأزمان أنه إذا عطسَ أحدٌ منهم في المشرقِ، شمَّتَه من بالمغرب، وإذا استغاثَ من بالشمال، لامسَت استِغاثتُه أسماعَ من بالجَنوب..
بَيْد أن الدهشة كل الدهشة ما أصابَ الأمةَ الإسلامية في هذا العصر والزمان؛ حيث يصرخُ من هو بجانبِك ويئِنُّ، فلا يُسمَع، ويُشيرُ بيدَيه: الغوثَ الغوثَ، فلا يُرى! (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)… عباد الله: لا يشكُّ كل صادق غيور أن الأمةَ الإسلامية بمجموعها وهي تكتوِي بلَهيبِ الصِّراعات والنَّكَبَات والعُدوان والحُروب التي أكلَت الأخضرَ واليابِسَ، أحوجُ ما تكون إلى إحياء الضمير الصادق، الذي لا غِلَّ فيه ولا حسَد، الضمير المُشفِق الناصِح، الذي يُقدِّمُ مصلحةَ بني مِلَّتِه ومُجتمعِه ووطنه وأهلِه الظاهِرة، على مصلَحَته الشخصيَّة القاصِرة؛ لأننا نُدرِكُ أنه عندما يموتُ الضميرُ، تزأرُ الأثَرَةُ وحبُّ الذات، ويُصبِحُ منطقُ الأفراد والمُجتمعات: عليك نفسَك، لن تُقدِّم أو تُؤخِّر، ماذا عساكَ أن تصنَع؟ لستَ كفيلاً على بني آدم، ولا وكيلاً، ولا حفيظًاً.. إنه عندما يموتُ الضميرُ، يُؤمَّنُ الخائنُ، ويُخوَّنُ الأمين، ويُصدَّقُ الكاذِبُ، ويُكذَّبُ الصادق.. عندما يموتُ الضمير، يستأسِدُ الحَمَل، ويستنوِقُ الجمَل، وتنطِقُ الرُّويبِضَة، ويتَّخِذُ الناسُ رُؤوساً جُهَّالاً فيضِلُّوا ويُضِلُّوا..
عندما يموتُ الضميرُ يُصبِحُ التعييرُ نصيحةً، والغِيبةُ حُريَّةً، والنَّميمةُ تحذيراً…
وعندما يموتُ الضميرُ، يُمكنُ للظالِمِ والباغي كما هو الحال في فلسطين الحبيبة، وقدسنا السليبة، وغيرها من البلاد المنكوبة، يُمكنُ للظالِمِ في تلك الديار، من أن يدُكَّ شعباً كاملاً، فلا يُبالِي في أي وادٍ هلَك، فيقتُل ويفجُر، ويأسِرُ ويُشرِّد، فيستصرِخون ويستغيثُون ويُنادُون، ولكن لا حياةَ لمن يُنادَى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عندما يموتُ الضميرُ، يعلُو الظلمُ، ويخبُو العدل، ويكثُر الشُّحُّ، ويقِلُّ الناصِح، وتُستمطَرُ الآفاتُ والعُقوبات، ويُهدَمُ البُنيان لبِنَةً لبِنَةً، ولاتَ ساعة ترميمٍ… وأخيراً عندما يموتُ الضميرُ، يموتُ الإحساس، وإذا ماتَ الإحساسُ، استوَت الأعالِي والأسافِل، فصارَ باطنُ الأرض خيراً لأهلها من ظاهرِها. يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كنت مَكَانَهُ)… ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا ربكم، وأحيوا ضمائركم، ورَبُّوها على عَمَلِ الخيرِ، والبعدِ عن كلِّ شر،
وادعوا إلى ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقولوا كلمة الحق؛ تسعدوا وتفلحوا وتنالوا الخير في الدنيا والآخرة.. اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا،اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا. اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ أَنْ نَلْقَاكَ، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلاَمِنَا مِنَ الدُّنْيَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله،اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت يا رب العالمين.. اللَّهُمَّ إِنِّا أنسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَنسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَنسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَنسْأَلُكَ نَعِيمَاً لاَ يَنْفَدُ، ونسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعْ، وَنسْأَلُكَ الرِّضَا بَعَدَ الْقَضَاءِ، وَنسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَنسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان وولي عهده سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم أحفظ سمو رئيس الوزراء خليفة بن سلمان، من كل سوء ومكروه، ومتعه بالصحة والعافية، والعمر المديد، لمواصلة مسيرة العطاء والبناء والنماء في مملكتنا العزيزة البحرين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماءهم، واجمع على الحق والهدى والصواب كلمتهم، وول عليهم خيارهم، واكفهم شرارهم، وابسط الأمن والعدل والرخاء في ديارهم، وأعذهم من الشرور والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم الله موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
عِبَادَ الْلَّهِ: (إِنَّ الْلَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ). فَاذْكُرُوْا الْلَّهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيْمُ الْجَلِيْلِ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ الْلَّهِ أَكْبَرُ، وَالْلَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُوْنَ وَيَغْفِرْ الْلَّهَ لِيَ وَلَكُمْ.
خطبة جامع الفاتح – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين