عدنان بن عبد الله القطان
16 ربيع الأول 1443 هـ – 22 أكتوبر 2021 م
———————————————————————–
الحمد لله الذي اختار لنبيّه خيرةَ خلقه من الآل والصّحابة، نحمده سبحانه ونشكره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له وعدَ من دعَاه بالاستجابة، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّداً عبده ورسوله، صاحب الخلق الأوفى وحسن الإنابة، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سديداً يصلح لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
معاشر المسلمين: لقد اقتضت حكمة الله عز وجل، أن يرسل رسله للبشرية مبشرين ومنذرين، وينزل معهم الكتاب، وكل نبي يدعوا قومه ويختار منهم المؤمنين الصادقين أعواناً ووزراء وأصحاباً وحواريين، يحملون هم الدعوة معه، ويجاهدون وإياه، ويقومون بما تقتضيه مصلحة الرسالة ،فنوح عليه السلام ركب في السفينة هو ومن آمن معه، وموسى عليه السلام كان معه الخلص من بني إسرائيل، وعيسى عليه السلام قال: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اختار الله تعالى له صحابة أخياراً صالحين، آمنوا به واتبعوه وآزروه، ونصروه وفدوه بالنفس والأموال والأوقات، فكانوا خير صحبة لخير نبي، إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الجيل الفريد العظيم الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه، وأحسن تربيته، فأصبحوا صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل، لقد اجتمع فيهم من عوامل الخير ما لم يجتمع في جيل قبلهم، ولن يجتمع في جيل بعدهم، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(فصرح جل وعلا في هذه الآية، بأنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار، وأنه أعد لهم الجنة، وقال عز وجل: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وعدد المبايعين فيها من الصحابة ألف وخمسمائة، ومن رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر، لان العبرة بالوفاة على الإسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يَدْخُل النارَ أحدٌ مِمَّن بايعَ تحتَ الشَجَرة)، لقد أثنى الله تعالى على صحابة نبيه في كتابه وعدلهم ووثقهم، وبيَّن شرفهم وسابقتهم، وأخبر تعالى عن رضاه عنهم، ورضاهم عنه، أثنى عليهم ثناءً عطراً ليس في القرآن فقط، بل أثنى عليهم جلّ وعلا في القرآن والإنجيل والتوراة؛ قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) فهذا ثناءٌ على الصحابة رضوان الله عليهم في القرآن والتوراة والإنجيل…
وفي القرآن الكريم قد جاءت آيات غيرها تثني على صحابة نبيه ﷺ وتزكيهم وتترضى عنهم.
أيها المؤمنون: وأما الأحاديث الثابتة عن رسول الله ﷺ في فضل صحابته فكثيرة ومتعددة، وكذلك النصوص الواردة عن سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان التي تقضي بتحريم الطعن في الصحابة وسبهم، والدفاع عنهم، وذم وعقوبة من أطلق لسانه على أولئك البررة الأخيار، وأقوالهم التي كانوا يواجهون بها الذين ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي كانت في غاية الإنكار على من وقع في ذلك، وبيان الخسارة الكبيرة التي يكسبها من أراد الله فتنته بالوقوع والنيل من خير القرون..
لقد أثنى الرسول ﷺ ثناءً عاطراً على صحابته الكرام، ويكفيهم فخراً أنه كان راضياً عنهم، محباً لأخلاقهم، خصوصاً أولئك الذين نصروه في ساعة العسرة، باذلين أموالهم وأنفسهم وأولادهم حباً فيه، وفي رفع هذا الدين العظيم، حتى أتم الله لهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلهم الفضل بعد الله على سائر البشر، وسائر الناس مدينون لهم بالشكر والتقدير، إذ لولا فضل الله ثم قيام أولئك بنصرة الإسلام لما وصل إلى ما وصل إليه ولهذا فكل منتسب إلى الإسلام مدين لهم بالشكر والتقدير، ومن ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، قوله: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وهذه الخيرية أيها الإخوة والأخوات تجعل من جيل الصحابة مثلاً عالياً للمسلمين في كل زمان ومكان، فهم يتطلعون إليهم، ويعتزون بهم، ويسترشدون بسيرهم، تلك السير المتنوعة في السلم والحرب، والعبادة والمجاهدة، والمعاملة والبذل، مما يكفل للمسلمين في مختلف العصور نماذج متنوعة صالحة للاقتداء، وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم (لا تَسُبُّوا أصْحابِي؛ فو الذي نفسي بيده لوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ) ويقول صلى الله عليه وسلم (النجومُ أمنَةٌ للسماءِ ، فإذا ذَهَبَتِ النجومُ أتَى السماءَ ما توعَدُ، وأنا أمنَةٌ لأصحابي فإذا ذهبْتُ أتى أصحابِي ما يوعدونَ وأصحابي أمنَةٌ لأمَّتِي فإذا ذهبَتْ أصحابي أتى أمتي ما يوعدونَ) وبهذه المعاني ورد أنه قيل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسب والشتم حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر) وقد أثنى عليهم الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أحدهم ووصفهم، فقال: لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ! لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً قَدْ بَاتُوا سُجّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَخُدُودِهِمْ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ! وإِذَا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ، وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ، وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ! وقال عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقامُ أحدهم ساعة خيرٌ من عبادة أحدكم أربعين سنة) أجل أيها المسلمون: إن فضل الصحابة كبير وعظيم لعظم منزلتهم وفضلهم وقدرهم، فهم من رأى رسول الله ﷺ وصحبه، وأول من آمن به وصدقه، وأكثر الناس حباً له، ولكثرة الابتلاءات والمعارك التي خاضوها في حياته وبعده، لقد خاض النبي ﷺ خمساً وعشرين معركة في عشر سنين، وهو ما يعني إن كل عام كان فيه معركتان، هذا خلاف السرايا التي كان يرسلها والتي تزيد على مائة سرية، فلك أن تتصور يا عبد الله حجم التعب والألم والمعاناة التي حصلت لهم بسبب هذه المعارك، وحجم القتل الذي وقع فيهم، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يقاتلون آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم وتحملوا شديد العذاب في سبيل هذا الدين، وما قصة آل ياسر وبلال وصهيب وخباب عنا ببعيد، وحبهم الشديد للجهاد في سبيل الله، والإنفاق بلا حدود في سبيل الله عز وجل.. وقد ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في الأنفاق، والتضحية بالمال، فكان أبو بكر الصِّديق رضي الله عنه الأكثر سبقًاً في البذل والإنفاق في سبيل الله، فقد قال الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يوماً، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت (أي قال عمر عن أبي بكر: لا أسبقه إلى شيءٍ أبداً. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه يستعينه في جيش العسرة فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فصبت بين يديه، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يقلبها يبن يديه ويقول (غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة وما يبالى عثمان ما عمل بعد هذا اليوم)
وهنالك من الصفات الحميدة الشيء الكثير تركناها خشية الإطالة، كالرحمة والمحبة فيما بينهم، والعلم بالكتاب والسنة والزهد في الدنيا وكثرة العبادة، وسمو الأخلاق، والاستجابة لله وللرسول.. أيها الأخوة والأخوات في الله: إن ما حصل بين الصحابة الكرام من الاختلاف والاقتتال: يجب علينا الكف عنه، مع اعتقاد أنهم أفضل الأمة، ومحبتهم والترضي عنهم، وعلى هذا تتابعت كلمة سلفنا الصالح، حيث قالوا: ونكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد مع رسول الله، وسبقوا الناس بالفضل، وغفر الله لهم، وأمرنا بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه، وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم، وكل ما شجر بينهم (اجتهاد) ومغفور لهم) وسئل الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله عما جرى بين الأصحاب، فقال : (تلك دماء كف الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها) وسأل رجل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن قوله فيما جرى بين الصحابة فقال له: (ما أقول فيهم إلا الحسنى) أقرأ قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال القرطبي رحمه الله: (وقد تعبدنا الله بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم والطعن فيهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم.
ألا فاتقوا الله عباد الله: واعرفوا قدر نبيكم ﷺ وأصحابه الكرام البررة… وتدبروا قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وقوله جل وعلا (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ)
جعلنا الله تعالى وإياكم من أحباب آل بيته وأصحابه، وحشرنا معهم في جنات النعيم، وهدى الله تعالى إلى الحق من أساء إليهم وسبهم وطعن فيهم إنه سميع مجيب الدعاء.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الآمر بالبر والإحسان، الناهي عن الإثم والعدوان، نحمده سبحانه أن هدانا للإيمان وعلمنا البيان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا، أن الواجب على وسائل الإعلام المختلفة وبعض القنوات الفضائية المتطرفة على وجه الخصوص، كما يجب على أهل العلم والدعاة والمثقفين والمنصفين، أن يتقوا الله في سلف هذه الأمة، وأن يتوجهوا نحوَ عرضِ الحقِّ المشرِق الصحيح الثابتِ، لمجتمع الصحابة وآل البيت ومن تبِعَهم بإحسانٍ، ففي كُتُبِنا جميعاً سنة وشيعة، رِواياتٌ صحيحَة مُضيئةٌ، يثبِتُها النّقل، ويصدِّقها العقل، ويألَفُها الحِسُّ المؤمِن، والذَّوق الطيِّب النصوح، وتتَّفِق مع آي القرآن الكريم، وهديِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم وهدايتِه وتوجيهِه وسيرته.
أيّها المؤمنون والمؤمنات: وإنَّ مِنَ العجَب العُجاب، أن الناظرَ والباحث المنصف، كلما تقدَّم متوغِّلاً في القِدَم، رَاجعاً إلى عصورِ الإسلام الأولى، يجِدُ التطابُقَ والتّماثُلَ والتوادَّ والتحابَ بين آل بيتِ رسول الله وصحابته الكرام، وكلّما تأخَّر بالأمة الزّمنُ، بدَت ألسنةُ الدخانِ، ومَناطِقُ الظّلام وصُوَر التشويشِ والتحريض والفتن والتحريشِ، ومظاهرُ العنف الفكريّ والتعصّب المذهبيّ والطائفيّ، لقد ثبتت وصحت العلاقة الحميمة بين تلك المواكب الإيمانيّة الخيِّرة، والقدوات الحسنَة من آل البيت والصحابة وأنه ليس في قلوبهم ولا في صدورِهم غِلّ ولا بغض ولا حقد على أحد، بل كانوا على الحقّ والخيرِ إخوانًاً وأعواناً، متحابين متوادين متراحمين، في الصحيحين أن علي بن أبي طالب ترحم على عمر بعد وفاته وهو مسجى على السرير فقال: ما خَلَّفْتَ أحَداً أحَبَّ إلَيَّ أنْ ألْقَى اللَّهَ بمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وايْمُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مع صَاحِبَيْكَ، وحَسِبْتُ إنِّي كُنْتُ كَثِيراً أسْمَعُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ذَهَبْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، ودَخَلْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وخَرَجْتُ أنَا وأَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ.. أمّا أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها فإنَّ عليّاً كان يكرمها ويجلُّها ويحفَظ لها مكانها من رسول الله، ﷺ
فقد بلغه أن رجلين طعنا في عرضها فأقام عليهما الحد وجلدهما… ولمّا سئِل الإمام علي رضي الله عنه عن أهلِ النّهروان من الخوارِج: أمشرِكون هم؟ قال: هم من الشِّرك فرُّوا، قيل: أفمُنَافقون هم؟ قال: إنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخوانُنا بَغَوا علينا… أومآ علمتم رحمكم الله: أن أصحَ طرق الأسناد في مناقبِ الإمام عليٍّ كان مِن طريق روايَة السيدة عائشة، فقد روَت حديثَ الكساء في فضلِ عليّ وفاطمة والحسَن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، وكانت تحيل السائلين والمستَفتين إلى عليٍّ، وطلبَت رضيَ الله عنها بعد استشهادِ عُثمان رضي الله عنه أن يلزَمَ الناسُ عليًّاً، فقد سَألها عبد الله بن بدِيل بن وَرقاء الخزاعي: من يبايع؟ فقالت: (الزَم عَلِيّاً وبايعه) …
والموضوعُ يا عباد الله ذو شُجون، والحديثُ مُضيءٌ ممتِع في كتُبِ الصِّحاحِ والتّاريخ الثابِتِ الموثَّق في كتب أهل الإسلام كلِّهم، مليءٌ بما بين أصحابِ رسول الله وأهلِ بيتِه والتابعين لهم بإحسانٍ من مودّة ومحبَّة واعتراف بالفضل متبادَل.
وبعد: أيّها المسلمون: فيجِب أن نرسخ ثقافة التسامُح والقَبول المتبادَل بين المختلفين، والنظر إلى إيجابياتِ التاريخ والرجال، يجِب الزّرعُ والنّشرُ للصّوَرِ الحقيقيَّة المشرِقة الجامِعة المانِعة، لا أن تُتَتبَّع العثرات والزلاتُ والهفوات التي لا يمكن أن يخلوَ منها بشرٌ أو أمّة أو دولةٌ أو سياسة. هذا إذا كانت ثابتةً واقعة، فكيف إذا كانت مَدسوسةً مكذوبة وموضوعة، أو كانت تَفسيراً لمغرضٍ أو تَأويلاً من صاحِبِ هوى أو قليلِ علم أو دين؟ أو لا يفقه ولا يعرف ولا يميز بين الحديث الصحيح والضعيف والموضوع.
قل خير قول في صحابة أحمد
وامدح جميع الآل والنسوان
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى
بسيوفهم يوم التقى الجمعان
فقتيلهم منهم وقاتلهم لهم
وكلاهما في الحشر مرحومان
حبّ القرابة والصحابة فريضة
ألقى بها ربّي إذا أحياني
اللهم ارزقنا حبك وحب نبيك محمد صلى عليه وسلم، وحب آل بيته الطيبين الطاهرين، وحب أصحابه الغر الميامين، واحشرنا معهم تحت ظل لواء سيد الأولين والآخرين، وأدخلنا الجنة مع الأبرار من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، يارب العالمين. اللهم وارضَ عن خلفاء نبيك الراشدين، ذوي المقام العلي، والفخر الجلي، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم أحفظ بلادنا البحرين واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم. وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.. اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلاء والرِّبا والزِّنا والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واشف مرضانا، واغفر لنا ولموتانا وارحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين