مكانة القدس في عقيدة المسلمين
عدنان بن عبد الله القطان
9 شوال 1442 هـ – 21 مايو 2021 م
———————————————————
الحمد لله الذي تعالى في ملكوته وتقدَّس، واصطفى من البشر رسلاً، ومن البقاع رباعاً مباركة وقدَّس، وجعل القبلةَ الأولى والمحشرَ في الأخرى إلى البيت الْمُقَدَّس، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، شهادة بها قام الإسلام وعليها تأسَّس، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين والتابعين وَمَنْ تَبِعَهم بإحسان.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم ملاقوه، وموقوفون بين يديه ومحاسبون، فأطيعوا أمره ولا تعصوه، (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)..
معاشر المسلمين: نصحاً للأمة وإبراءً للذمة، وتمسكاً بثوابتنا الشرعية الإسلامية، ومعذرة إلى الله، وما أخذه الله على العلماء وأهل العلم من عهد ببيان العلم وعدم كتمانه، ومنها بيان مكانة القدس والمسجد الأقصى في عقيدة المسلمين، من أجل كل هذا نقول: أيها القدس الشريف، من أين نبدأ، يا عيون فلسطين، وإن في قلب كل مسلم من قضيتك جروحاً دامية، وفي جفن كل مسلم من مآسيك عَبَرَاتٍ هامية، وله بإسلامه عهد لفلسطين وأقصاها السليب من يوم اختارها الباري للعروج، إلى السماء ذات البروج.
يا فلسطينَ العزة والعظمة والإباء: إذا كان حُبُّ الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآربِ التي يُقَضِّيها الشبابُ، فإنَّ هوى المسلم لكِ أن فيكِ أُولَى القبلتين، والمسجدَ الأقصى الذي بارك الله حوله، وأنكِ كنتِ نهايةَ المرحلة الأرضية وبدايةَ المرحلةِ السماويةِ.. أيها الأخوة والأخوات في الله: المسجد الأقصى والأرض المقدسة، وفلسطين وبيت المقدس، أرض النبوات ومسرى الرسول ﷺ وإرثُ الأمةِ الخاتِمة الذي يسكن قلبَ كلِّ مسلم إلى قيام الساعة. بقاعٌ باركها الله وبارك ما حولها، أكثرُ أرضٍ في هذه الدنيا خَطَا فيها الأنبياءُ عليهم السلام مازجت نسماتُها أنفاسَهم وأصاخت أفياؤها لتراتيلهم ومناجاتهم. وتبلَّلَ ثراها بدموعهم ودمائهم، في أوديتها وعلى وهادها درَجَ أكثرُ الأنبياء، واستقبلت فجاجُهَا وحيَ الله من السماء.. لا يكاد وادٍ من أوديتها لم يشهد مرور نبي، ولا مَرْجٌ من مروجها لم يسمع تسبيحة رسول، لو نطقت حجارتها لَرَوَتْ لنا حكايةَ بعثةٍ، ولو تكلمت جبالها لقصت علينا مولد رسالة، ولو انحصر ظاهرها عن باطنها لهالتك كثرة مراقد الأنبياء هنالك، ووفرة رفاة الصالحين والأولياء من كل الشرائع كذلك.. كانت الأجيال التي تتعاقب على ثراها لا تخلو من نبي أو أنبياء، وكثيراً ما كان يتوافر عدد من الأنبياء في زمن واحد، وربما قرية واحدة من قُرَى فلسطين، فضلاً عن المطيعين والنُّسَّاك المبثوثينَ على صُعُداتها كَبَثِّ الربيع أفانينَ الزَّهَر، محاريب المتبتلين تلقاها في منحنيات الأودية، وصوامع المتعبدين وَبِيَعهم نائية عن القرى والأبنية، عُبِدَ اللهُ فيها زمناً أطول من أزمان بقية الأرض. ولئن كان الضلال في كثير من بقاع الدنيا على هيئة وثنية أو إلحاد، فإن الضلال في الشام وبيت المقدس خصوصاً إذا وُجِدَ، فقد كان تقصيراً في القيام بحقّ رسالة أو تحريفًاً لمبادئ نبوة مع بقاء جزء من الحق فيما بين أيديهم من صحائف أو كُتُب؛ لذا كانت فلسطين الحبيبة هي ميراث النبوات وعهد الرسالات، وميلاد الشرائع، أولى بها وبخلافتها رسل الله وأتباعهم إلى يوم الدين. وقد كان من أوائلهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء عليه وعليهم السلام والذي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وكيف يكون ذلك، (وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) (وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)
واستمر ساكن الأرض المقدسة من بعده تسوسهم أنبياؤهم كلما سلف نبي خلفه نبي، تطاولت بهم الدهور وتتابعت عليهم الحِقَب، تعاقبت على فلسطين أمم، وتغايرت أَلْسُن حتى أسلم الله مقاليدها لهذه الأمة الوارثة، لوحدانية الرسالات وخلاصة النبوءات، ولرسولها المبشَّر به في كل الأمم السالفة.
صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بمكة ثلاثة عشر عاماً، وبعد الهجرة إلى المدينة أيضاً سبعة عشر شهراً حتى نزل القرآن آمِراً بالتوجه إلى المسجد الحرام؛ والذي ارتبط ارتباطًاً أزليّاً بالمسجد الأقصى، فكان الإسراء إليه والمعراج منه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أِيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أِيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ سَنَةً) الحديثَ…) وقال صلى الله عليه وسلم: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا) الحديث… فهو البيت الذي عظمته الملل وأكرمته الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزَّلَة من الله عز وجل: الزبور والتوراة، والإنجيل والقرآن.
أيها المؤمنون: الأرضُ لله يورثها من يشاء من عباده، فكما كانت للمؤمنين قبل بني إسرائيل فقد كانت للمؤمنين بعدهم (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) حتى أَذِنَ اللهُ تعالى ببعثة سيد الثقلين، وخاتم النبيينَ، وبشارتِهم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم، وكان فتح بيت المقدس إحدى بشاراته، وكانت وراثتُه ووراثةُ أمتِه للأرض المباركة هي سُنَّةَ اللهِ الممتدةَ على مر العصور، ومنذ عَهْدِ إبراهيمَ عليه السلام. وإن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس ليلةَ الإسراء كانت إعلاناً بأن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر، أخذت تمامَها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن آخِر صبغة للمسجد الأقصى هي الصبغة الإسلامية، فالتصق نَسَبُ المسجدِ الأقصى بهذه الأمة الوارثة..
عباد الله: وفي السنة الخامسة عشرة للهجرة تحققت النبوة، ودخل المسلمون فلسطين وقال البطارقة النصارى: لا نسلِّم مفاتيحَ بيت المقدس إلا للخليفة عمر بن الخطاب، فإنا نجد صفته في الكتب المقدسة، وفي لحظة تاريخية جليلة جاء عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى فلسطين وتسلم مفاتيح بيت المقدس تسلماً شريفاً في قصة تكتب تفاصيلها بمداد النور وأشرف على مدينة القدس من جبل المكبِّر حيث كبر وكبر معه المسلمون وهناك قال قولته الشهيرة: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فَمَهْمَا ابتغيتم العزة بغيره أذلكم الله)، دخل عمر بعزة الإسلام وفتَح القدس بهذه الكلمة العظيمة في يوم من أيام الله وصلى في صدر المسجد مما يلي القبلة، وسأل عن الصخرة وكانت مدفونة تحت القمامة والزِّبْلِ، فأزال عنها القَذَر بعباءته، وتبعه الناس حتى طهر المكان، وكتب للبلاد ميثاقاً وعهداً وأماناً، وحفظ لأصحاب الشرائع كلهم حقهم، فلم يمنع أحداً من ممارسة منسكه، ولم يضيِّق على صاحب صومعة أو بيعة ولم يهدم جداراً أُسِّس على دين ولم يُهَجِّر ساكناً ولا مستوطناً، ولم يهدم بيتاً ولا معبداً ولا داراً. وبقيت الكنائس والمعابد من عهده إلى يومنا هذا وطيلة فترة حكم المسلمين مع تتابع قرون لم يتعرض لها أحد، كل ذلك تَمَّ وعمر أقوى حاكم على وجه الأرض، وسلطانه أعز سلطان تحت أديم السماء، لم تكن حينها منظمات تلاحِظ حقوقَ الإنسان، ولا جمعيات تطالِب بتعايُش الأديان، كان الإسلام أسبقَ من ذلك وأولئك، لم يضمّ ويظلم أحد في سلطان الفتح الإسلامي، ولك أن تقارِن ذلك بما يحدث الآنَ في ظِلّ المنظمات والجمعيات والدول الكبرى وبعد إعلان المبادئ والمواثيق، بعد أن مَلَكَ المحتلون مقداراً قليلاً من القوة؛ ليتبين لك الدعوى من الحق، والزيف من الصدق.
أيها المسلمون: إن فلسطين لم تكن مجردَ أرض دخلت تحت سلطان المسلمين يوماً من الأيام، ويمكنها في يوم آخَر أن تكون خارجه، إن فلسطين تاريخًاً وأرضاً ومقدسات ومعالِم هي إرثٌ واجب القَبُول، متحتِّم الرعاية، لازمُ الصَّوْن، من جميع المسلمين حكاماً ومحكومين، إنه ليس خياراً يتردد فيه المترددون أو شأناً يتحير فيه المتحيرون، القدسُ آيةٌ في الكتاب، وستبقى ما بقي الزمان، ولن يستطيع بشر أن يغير هذه الحقيقة. وإن لهذه الأمة جذوراً أعمقَ مِن أن تُستَأصل… فلسطين وبيت المقدس آلت إلى المسلمين بأيلولة الشرائع إلى شريعة الإسلام، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًاً عَلَيْهِ)، آلت تلك المقدسات لأهلها الذين هم مازالوا متشبثين بها حتى الآن رغم المرارة والأوجاع، آلت بوعود قرآنية وتراتيب إلهية، وقد صدَقَت تلك الوعودُ، وآخِرُها لم يتحقق بعدُ؛ وهو أن الساعة ستقوم وبيت المقدس بأيدي المسلمين؛ لذا فإن الثابت منذ الفتح وحتى المحشر أن بلاد فلسطين ومدينة القدس بلاد إسلامية عربية، والطارئ والاستثناء هو وقوعها في يد غيرهم…
وما مضى من تاريخ أكَّد هذه النبوةَ وصدَّق ذلك الوعدَ، وإنا والله لَمؤمنون وموقنون أن هذا الوعد سيصدق حتى منتهاه؛ وعليه: فكلُّ إرادة وقوة تَفْرِض غيرَ ذلك إنما تعبث في الدماء وتؤجِّج العنفَ والبغضاءَ، وتُحدث شرخاً في الإنسانية وتشوهات في الحضارة، ثم تؤول عاقبةُ أمرِها خُسراً.
أيها المؤمنون: القدس مفتاح السلام، ومن الذي يكره السلامَ ولا يريد السلامَ، بل مَنِ الذي اعترض في الماضي أن يعيش اليهود والنصارى مع المسلمين في أرض الشام وفلسطين ومارسوا عباداتهم وبقيت كنائسُهم ومعابدُهم واختلطوا فيها بالمسلمين وتبادلوا المصالحَ والمنافعَ، بل وتصاهروا كما كان التاريخ القريب والبعيد، مَنِ الذي يكره السلامَ ولا يريد السلامَ، وقد قدَّم العربُ مبادراتِهم في ذلك وما زالوا، ولكن أن تُغتصب أرض، وتهجَّر أُسَر، وتدمر بيوت، وتفجر أبراج بنايات بساكنيها من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، ويُنفى شعبٌ ويزوَّر تاريخٌ، ويعبث بمقدسات، وتغير معالِم، ويقع ظلم شديد بشعب مازال يُسقى المرَّ منذ أكثر من سبعين عاماً، فإن ذلك كله عبث ببرميل بارود لا يُدْرَى متى يبلغ مداه..
إن الذي يُمَارَس اليومَ هو إحداثُ صراعِ ثقافةٍ وحضارةٍ ودينٍ، وتصرُّفٌ يُوقِع العالَم في حرَج وخطَر، ويُنذر بشرٍّ لا يعلم مداه إلا الله عز وجل. وعلى المخلصين من أمة الإسلام، وعلى العقلاء من قادة العالَم أن يتداركوا ما يجري من مسلسل التجاوزات والاعتداءات على الأرض والإنسان وممتلكاته التراثية والدينية والمعالِم الإسلامية والحفريات الأرضية التي تنخر أساس مسجد عظَّمَه الأنبياءُ، وقدسه رب السماء، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)..
اللهم أحفظ فلسطين وأهلها وبيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إن قضية فلسطين ليست قضية شعب أو عرق، أو حزب أو فصيل أو جماعة أو منظَّمَة، إنها قضية كل المسلمين في العالم، ولقد كانت دوماً تستجيش ولاءاتِ المسلمينَ لبعضهم، تجمع كلمتَهم وتوحِّد صفَّهم، وهي عنوان تلاحمهم وترابطهم ومحل اتفاقهم، ولا يجوز أن تكون مثاراً لتبادل الاتهامات وتكريس الخلافات، ولا أن تُستغل لإسقاطات وتصفية حسابات…
والعدل يقتضي أن نقول: إن الفلسطينيين عموماً والمقادسة خصوصاً، قد ضحَّوْا تضحيةً عزَّ نظيرُها؛ فقد عاشوا أطول احتلال في هذا العصر، وهم متمسِّكون بأرضهم متشبِّثون بها، مرابطون على الأكناف بلا أسلحةٍ إلا الحجارةَ والهُتَاف، منذ أكثرَ مِن سبعين عاماً وقُرَاهُم تتعرض لمجازرَ ومذابح؛ وذلك لإرهابهم وتهجيرهم، فما زادتهم الأحداثُ إلا ثباتًا، جرَّبُوا قهرَ الرجال في سلب الأرض ومضضَ التهجير.
مضت أجيال منهم وَقَضَوْا وهم لم يعرفوا من رفاهية الحضارة شيئاً، وُلِدُوا في خوف وعاشوا في خوف، وماتوا عليه.
تكالبت قُوَى العالَم عليهم وهم صامدون، عاشوا في المخيمات في حين أن الرفاه مِن حولهم، وُلِدَتْ كثيرٌ من أجيالهم في المنافي والشتات، ويعيشون فيها بأقلِّ أجرٍ وحرمانٍ من فُرَص وظيفية مناسبة؛ فَأَقِلُّوا عليهم رحمكم الله من اللوم والعتاب، أو سدوا المكان الذي سدوا. أقيلوا عثرات مَنْ عثَر منهم بسبب ضغط الواقع عليهم وشدته، ولئن أساء بعضُهم أو أخطأ في تقدير، موقف فإن البقية ليسوا كذلك، ولا يجوز التعميم في ديننا، وَهُمْ أَوْلَى الناسِ بإقالة العِثَار والتماس الأعذار.
والمرابطون في أكناف بيت المقدس يؤمنون بحقهم في أرضهم، ويؤمنون بما صح عن نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي يقول عن بيت المقدس: (هوَ أرضُ المَحشرِ والمنشَرِ، وليأتيَنَّ على النَّاسِ زمانٌ ولقَيْدُ قَوْسِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) وفي المقابل: يا أيها الفلسطينيون الكرام، لئن كان صبركم على الاحتلال وعلى عدوكم مضربَ مثلٍ فإن صبركم على إخوانكم أَوْلَى، فإن قضيتكم هي قضية العرب والمسلمين، وقد بذلوا على المستوى الرسمي والأهلي والشعبي منذ عقود وما زالوا يبذلون، سواء كان حرباً أو سِلْماً، معونةً أو مواقفَ سياسيةً، وَلِعَدُوِّكم مصلحة في فَكّ ارتباطكم بعمقكم العربي والإسلامي؛ يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كي لا تلتحم..
والإشاعةُ سلاحٌ مجرَّب للعدو، فاستعجال بعضكم باتهامات أو سوء ظن، يعود على قضيتكم وقضيتنا بالفشل والتأخر، وإن بعض الأصوات الشاذة غيرِ المتعقِّلة، لَتُفرِحُ العدو، وتُوهِن الصلةَ، وتضعف التعاطف، ولستم في حاجة لمزيد من العداوات والتباغض والخصومات.
أيها المسلمون: سيبقى القدس في قلوبنا، وجزءاً من عقيدتنا، وفي وعي الأمة الإسلامية، وعلى قادة المسلمين وأهل العلم والثقافة والفكر، أن يُعْنَوْا بما يحفظ للأمة بقاءَها وبقاء تراثها وحياتها، الواجب المتحتِّم في زمن الجِدّ والصراع، هو اليقظة والاجتماع، والعمل الجادّ والائتلاف، وتَرْك الخلاف، لا يليق بأمة الإسلام أن تغرق في خلافات جانبية، ونظرات إقليمية أو أنانية، يجب أن تقدَّم مصالح الأمة الكبرى على كل مصلحة فرعية، وأن تُسمع نداءاتُ الحقِّ والعدلِ ومبادرات الحَزْم والعقل بأن تُطَّرَح الخلافاتُ، وتتوحد الأمة في وجه الأزمات (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). فلن ننجح مادمنا مختلفين، ولن ننتصر إن كنا متفرقين..
حفظ الله فلسطين وأهلها والمسجد الأقصى وأهله، وطهره من ظلم الظالمين، واغتصاب الغاصبين، وهدى الجميع للتي هي أقوم.
اللهم ردنا إلى دينك حتى يعود الأقصى إلى قلوبنا، وإلى حوزة المسلمين، ولا تؤاخذنا على تقصيرنا، اللهم أحفظ القدس الشريف، والمسجد الأقصى، وأهل فلسطين من عدوان المعتدين، واحتلال الغاصبين، وانصرهم وثبت أقدامهم، واربط على قلوبهم، واحقن دمائهم، وتقبل شهدائهم، واقذف الرعب في قلوب أعدائهم. اللهم أحفظ المسجد الأقصى والمرابطين فيه، وفك أسره وأكتب لهم النصرة والغلبة والعزة والقوة، واجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين..
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا،وتلم بها شعثنا، وتدفع بها الفتن والمحن عنا يا أرحم الراحمين.. اللهم إنا نعوذ بك من سوء القضاء، ودَرَك الشقاء، وشماتة الأعداء، ونزول البلاء، وانتشار الوباء، نسألك سلاماً ما بعده كَدَر، ورضاً ما بعدَه سخطٌ، وفرحاً ما بعدَه حزنٌ، اللهم عليكَ توكَّلْنا، وإليكَ أَنَبْنا وإليكَ المصيرُ، اللهم أكشف الغمة، عن هذه الأمة، وردنا إليك رداً جميلاً، ولا تؤاخذنا بذنوبنا وتقصيرنا. يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين