عدنان بن عبد الله القطان
27 صفر 1444 هـ – 23 سبتمبر 2022 م
————————————————————————————
الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، وأرسل لنا خير الأنام محمداً عليه الصلاة والسلام، أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، ونشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى :(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
معاشر المؤمنين: مِن أجلِّ الاصطفاءِ الربانيِّ ذلكمُ الاصطفاءُ الذي خَصَّ اللهُ تعالى به صحابةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ بمن فيهم آل بيته المطهرين، فخلعَ عليهم به خِلَعَ الفضائلِ التي فاقوا بها مَن سواهم من البشرِ سوى الأنبياءِ؛ إذ اختارهمُ الله خياراً مِن بشرٍ، لصحبةِ خيرِ البشرِ محمد صلى الله عليه وسلم؛ حماةً لدينِه، وأنصاراً لملتِه، ونقلةً لشريعتِه.
يقولُ الصحابي الجليل عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه: إنَّ اللهَ نَظَرَ في قلوبِ العبادِ، فوجدَ قلبَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوبِ العبادِ، فاصطفاه لنفسِه فابْتعثَهُ برسالتِه، ثم نظرَ في قلوبِ العبادِ بعد قلبِ محمدٍ، فوجد قلوبَ أصحابِه خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعلهم وزراءَ نبيِّه، يقاتلون على دينِه)
قومٌ شهدَ اللهُ عز وجل برضاه عنهم كما رضوا عنه، ووعَدهم بالمغفرةِ والأجرِ العظيمِ، فقال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)
هم الذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله، من المهاجرين: الذين هجروا قومهم وعشيرتهم، وانتقلوا إلى دار الإسلام، والأنصار: الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه الكفار، والذين اتبعوهم بإحسان: في الاعتقاد والأقوال والأعمال طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، أولئك الذين رضي الله عنهم لطاعتهم الله ورسوله، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم وإيمانهم، وأعدَّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، ذلك هو الفوز والفلاح العظيم.. وفي هذه الآية تزكية للصحابة رضي الله عنهم، وتعديل لهم، وثناء عليهم؛ ولهذا فإن توقيرهم من أصول الإيمان. قال أهل العلم من السلف الصالح رحمهم الله تعليقاً على هذه الآية: قد غفر الله تعالى لجميع الأصحاب، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، وشرط على تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، وألا يقولوا فيهم إلا حسناً لا سوءاً، ويكفوا عما وقع بينهم من الفتن. وقال الله تعالى: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) فهذا تصريح من الله تبارك وتعالى على أنه: رضي عنهم، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأنهم خالدين فيها، وأن الله عز وجل تاب عليهم، ومن تاب الله عليه غفر زلته إن كان قد أخطأ…عباد الله: وقد شهدَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالخيريةِ المطلقةِ على سائرِ القرونِ، وزكاهم فقال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) ونهى عن سبّهم ولعنهم والقدح فيهم فقال: (لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَباً ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ) وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف حال الصحابة وهو أحدهم: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون ضمراً شعثاً غبراً، قد باتوا لله سجداً وقياماً يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله، مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم). أنتهى كلامه رضي الله عنه وأرضاه. وعلى ذاك بنى بعض علماء الإسلام تفضيلَ الصحابة على الناسِ قاطبةً سوى الأنبياءِ عليهم السلامُ، فقالوا: وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِيناً أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ؛ لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمْ هُمْ صَفْوَةُ الصَّفْوَةِ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّه).. أيها المسلمون: لئِنْ كان الوفاءُ لذي الفضلِ مِن محمودِ الخصالِ فإنَّ وفاءَ الإسلامِ لأصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد بلغَ ذُرى سمائه؛ وفاءً لجليلِ تضحيتِهم وجهادِهم، وصدقِهم فيما عاهدوا اللهَ عليه: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) إنّ المتأملَ في سيرةِ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيدرِكُ حجمَ التضحيات والبذلِ العظيمِ الذي استحقوا به -بعد فضلِ اللهِ- كرامةَ الوفاءِ الربانيِّ؛ إذ لم يَرَوْا معنى لحياتهم ولا قيمةً إلا بالدينِ الذي رفعهمُ اللهُ به مِن سفْحِ الجاهليةِ الهابطِ وشتاتِها إلى عُلا الخيريةِ بين الأممِ وسيادتِها، عبَّرَ عن ذلك المعنى العميقِ قولاً وفعلاً وحالاً الفاروقُ عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه، يوم أن خرج مع أبي عبيدة بن الجراح إلى الشام، وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ (مكان ضحل الماء) فَنَزَلَ عمر عن الناقة، وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ، (أي يستقبلونك على هذه الهيئة) فَقَالَ عُمَرُ: أَوَّهْ! لو لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ لجَعَلْتُهُ نَكَالاً لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ؛ فَمَهْمَا نَطْلُبِ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ) أولئك الصحبُ الأطهارُ حين رأوا أن لا معنى للحياةِ ولا قيمةَ إلا بالدينِ؛ جعلوه مِحْوَرَ اهتمامِهم، ومَحَطَّ ولائِهم وبَرائِهم، وأوقفوا عليه حياتَهم؛ فكانوا له أنصاراً بحمايتِهم رسولَ اللهِ ونصرتِه؛ كيما يُبَلِّغَ رسالةَ اللهِ للعالمين، مُجرِّدين سيوفَهم على كلِّ شقيٍّ حاولَ إعاقةَ البلاغِ؛ فصارت نفوسُهم أرخصَ ما تكونُ عليهم إن كانت مبذولةً في سبيلِ اللهِ وابتغاءِ رضوانِه، يُنْبِي عن ذاك الحالِ موقفُ خُبيبِ بنِ عديٍّ رضي اللهُ عنه حين صلبتْهُ قريشٌ، وأشهرتْ سيفَ قتْلِه، فنادوه وهو شامخٌ بإيمانِه شموخَ الشُمِّ الرواسي: أتحبُّ أن محمداً مكانَك، وأنت في بيتك ؟ فقال: والله ما أحب أني بين أهلي ومحمد صلى الله عليه وسلم في المكان الذي هو فيه تشوكه شوكة في قدمه) فلله دره كيف قدم روحه على أن يصاب محمد بشوكة تؤذيه أو ضر يمسه، ففاضت روحه وهو يصرح بحبه لنبيه ودفاعه عنه رضي الله عنه… وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ عَمَّهُ أنس بن النضر غَابَ عن قتال بَدْرٍ، فَقالَ: غِبْتُ عن أوَّلِ قِتَالِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لَئِنْ أشْهَدَنِي اللَّهُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أُجِدُّ، فَلَقِيَ يَومَ أُحُدٍ، فَهُزِمَ النَّاسُ، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي المُسْلِمِينَ وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا جَاءَ به المُشْرِكُونَ فَتَقَدَّمَ بسَيْفِهِ فَلَقِيَ سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ، فَقالَ: أيْنَ يا سَعْدُ، إنِّي أجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، فَمَضَى فَقُتِلَ، فَما عُرِفَ حتَّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بشَامَةٍ أوْ ببَنَانِهِ، وبِهِ بضْعٌ وثَمَانُونَ مِن طَعْنَةٍ وضَرْبَةٍ ورَمْيَةٍ بسَهْمٍ. وهذا سعد بن الربيع الأنصاري يقول لـزيد بن ثابت، وهو في ساحة المعركة وفي آخر رمق من الحياة، يا زيد بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف! الله أكبر! الرجل يفكر في رسول الله في آخر لحظات عمره: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف! وهذه امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ قُتِلَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا وَزَوْجُهَا، شُهَدَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ لَمَّا أُخْبِرْتُ بِذَلِكَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ السُّؤَالِ عَنْ سَلَامَتِهِ وَبَقَائِهِ، وَعَبَّرَتْ بِذَلِكَ تَأَدُّبَاً، لِأَنَّ الفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ الحَيَاةَ قَالُوا: خَيْرَاً هُوَ بِحَمْدِ اللهِ كَمَا تُحِبِّينَ. أَيْ: هُوَ سَالِمٌ مَنْصُورٌ مُظَفَّرٌ. فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ، أَيْ: بَعْدَ سَلَامَتِكَ وَرُؤْيَتِكَ جَلَلٌ أَيْ: بعدك هَيِّنٌة وحَقِيرٌة وصغيرة ويسيرة.
أيها المؤمنون: وكما كان أولئك الأخيارُ حماةَ الشريعةِ؛ فهم أوعيةُ نقْلِها المأمونِون؛ نقَلُوها بعلمٍ وفهْمٍ، ومشاهدةٍ لمواضعِ تنزُّلِ الآياتِ والسننِ، ومعرفةٍ لأسبابِ الورودِ، وإدراكٍ لمقاصدِ الشريعةِ، وخبرةٍ بلسانِ العربِ الذي نزلَ به الوحيُ؛ نقلاً عاماً لتفاصيلِ الشريعةِ في أدقِّ الجزئياتِ؛ مما أكملَ اللهُ به الدينَ، وأتمَّ به النعمةَ، ورضي به لنا الإسلامَ ديناً؛ نقلاً أميناً دقيقاً بلغَ إحصاءَ عددِ شعراتِ الشيبِ البادي على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فالصحبةُ والنصرةُ والتضحية والبلاغُ الصادقُ خصالٌ للقومِ أوجبتْ على الأمةِ شعيرةَ الوفاءِ لحقِّهم، بل غدا ذلك الوفاءُ حقيقةً من حقائقِ الإيمانِ التي لا يصحُّ إلا بها، وعلامةً فارقةً بين الإيمانِ والكفرِ، والسنةِ والبدعةِ.
إذ كيف يجرؤ أحد أن يتطاول ويقول أن هؤلاء الصحب الكرام، قد ارتدوا على أدبارهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)
عبادَ اللهِ: إنّ فريضةَ الوفاءِ لأصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يقومُ عمادُها إلا باستيفاءِ ركنِ محبتِهمُ القائمِ على معرفةِ فضائلِهم؛ محبةً شرعيةً دون غلوٍّ ولا جفاءٍ، كما سطّرَ علماءُ الإسلام في بيانِ مُعْتَقَدِهم إذ قالوا: (وَنُحِبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،َ وَلَا نُفَرِّطُ فِي حُبِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا نَتَبَرَّأُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنُبْغِضُ مَنْ يُبْغِضُهُم وَبِغَيْرِ الْخَيْرِ يَذْكُرُهُمْ، وَلَا نَذْكُرُهُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وطغيان). تلكمُ المحبةُ ذاتُ أثرٍ عمليٍّ يتبدَّى بالدعاءِ لهم والترضِّي عنهم، ونشْرِ محاسنِهم، والدفاعِ عنهم، والكفِّ عن معائبِهم، وعدمِ الخوضِ فيما شجَرَ بينهم؛ فعلى ذلكمُ النَّقاء رَسَوخُ اعتقادِنا يقولُ علماؤنا في بيان معتقدهم: (وَنمْسِكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَنقول: إِنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ، مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ، وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ؛ إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ. وَنحن مَعَ ذَلِكَ لَا نعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى إِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ… ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ).
فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعلنا وإياكم ممن قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يمن على من يشاء من عباده بالهداية والتوفيق نحمده ونشكره على توفيقه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: يقول صلى الله عليه وسلم: لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَباً ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ) ويقول:(إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا… الحديث) وهذا الحديث دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بسوء، وأنه يجب عليه أن يسكت عما وقع بينهم من فتن وخلاف، لأن ذكرهم بسوء وجرحهم وسبهم يتضمن تكذيب الله تعالى في القرءان الذي زكاهم وأثنى عليهم بقوله (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ويقول سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)
ويقول سبحانه: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ويقول جل وعلا (محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) فهذا وصف الله لهم في كتابه، فلله درهم، ما أعدلهم وما أحسنهم وأعظمهم فلا يبغضهم إلا منافق ولا يحبهم إلا مؤمن.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
عباد الله: هؤلاء الصحب الأخيار والبررة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم لا بد أن تربى الأمة صغاراً وكباراً على الوفاء لهم وأداء حقهم.
إنَّ انتقاصَ حقِّ الوفاءِ لأصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالإزراءِ عليهم، والطعنِ فيهم، وسبهم وانتهاكِ حرمتِهم، والتَّنَكُبِ عن هديهم مُؤْذِنٌ بشرٍّ ذريعٍ وضلالٍ مبينٍ؛ إذ في ذلك تكذيبٌ لشهادةِ اللهِ لهم بالاهتداءِ والتزكيةِ، وطعنٌ في أساسِ الشريعةِ، وهدمٌ لأصلِها؛ إذ الطعنُ في نَقَلَتِها طعنٌ في روايتِهم لها؛ لتكونَ الشريعةُ محلَّ ريبةٍ ونقصٍ وتحريفٍ، وكلُّ ذلك مناقضٌ لإتمامِ الملةِ الذي شهدَ اللهُ عز وجل به بقولِه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً)
إن من حق الصحابة الأخيار أن تتعلم ناشئة المسلمين سيرتهم، وأن تُتَّخذ منهجاً وقدوة يتربى عليها أبناؤنا وبناتنا بدلاً من أن تحتفظ ذاكرتهم بأسماء كل ساقط وهابط….
وإن من حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا حبهم والدفاع عن أعراضهم، والكفّ عما حصل بينهم، والاعتذار لهم وإحسان الظن بهم.. لا بد أن تقف الأمة صفّاً واحداً في وجه كل مَن يتنقص من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويهينهم بقوله أو فعله أو كتاباته بالبيان وبقوة القانون والسلطان، فإن صحابة رسول الله، هم حَمَلة رسالته ونَقَلة دعوته ودعاة مِلّته، وإن أيّ انتقاص لهم هو انتقاص للشريعة وطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم حينما اختارهم أصحاباً له ورباهم وصنعهم على عينه والمرء على دين خليله.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحشرنا يوم القيامة مع أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم ارض عنهم في الأولين والآخرين، واحشرنا معهم في كوكبة سيد المرسلين وأدخلنا جنة النعيم يارب العالمين.
اللهم إنا نشهدك أنا نحب أصحاب نبيك، والنبي أخبرنا بأن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب، فاللهم احشرنا معهم بحبنا إياهم، وإن لم نعمل بأعمالهم. (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ربَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً)
اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا
حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المرابطين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم والدينا وارحم موتانا، وارحم موتانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين