حقوق الأب على الأبناء
عدنان بن عبد الله القطان
24 محرم 1445 هـ – 11 أغسطس 2023 م
—————————————————————————
الحمد لله رب العالمين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه وخليله، المبعوث رحمة للعالمين بالدين القويم والنهج المستقيم، وحجة على الخلائق أجمعين، شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: لا حق على الإنسان أعظم وأكبر بعد حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم من حقوق الوالدين، فقد تظاهرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وأخذ الله تعالى ميثاق من كانوا قبلنا عليه فقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..) وأوجبه سبحانه في شرعنا بأقوى صيغة، وأبلغ عبارة، وقرنه بتوحيده والنهي عن الشرك به، فقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فعبّر عنه بصيغة القضاء التي هي من أقوى صيغ الأمر والإلزام؛ فإن قضاء القاضي نافذ، والله تعالى أحكم الحاكمين وأعدلهم وأقواهم، وأَوْصَى اللهُ تعالى بالإحْسَانِ إلى الوَالِدينِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فقالَ سُبحانَهُ: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وقالَ تعَالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فلله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد، ولعل في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه ما يحفز النفوس للبر والطاعة؛ فقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله. فرضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين. وقد قال حبيبكم وإمامكم صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يُوصيكم بأمَّهاتِكم ثم يُوصيكم بآبائِكم، ثم بالأقربِ فالأقربِ) غَيرَ أَنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ حِينَمَا نَتَكَلَّمُ عَن بَرِّ الوَالِدينِ، يَتبَادَرُ إِلى أَذهَانِهِمْ دَائمًا بَرُّ الأُمهَاتِ فَحَسبُ، مَعَ أَنَّ هَذا لَيسَ مَقصُوداً، وإذَا كَانَ شَأنُ الأُمِّ عَظيماً، وَفَضلُهَا كَبِيراً، وتَعَبُهَا فِي تَربِيتِنَا جَسِيماً، فإنَّ الأَبَ لاَ يَقلُّ عَنهَا في تَعبِهِ وَجِدِّهِ واجتِهَادِهِ، وإنَّمَا نُوِّهَ باسمِ الأُمِّ أَكثَرَ مِن مَرَّةٍ لِضعفِهَا وقِلَّةِ حِيلَتِهَا، ولأنَّهَا لاَ تَملِكُ مِن أَمرِهَا شَيئاً، ولَو كَانَ الابنُ مَعهَا عَاقًّاً فإنَّ حَياتَهَا تَتَنَكَّدُ عليهَا؛ إِذْ هُوَ أَمَلُهَا في الحَياةِ وسَنَدُهَا في الكِبَرِ بعدَ اللهِ عز وجل.
(الأبُ) عباد الله كلمةٌ قَليلةٌ حرُوفُها، عَظيمة في عطائِها وشعورِهِا… (الأبُ) لا تُوفِّيه العبارات، ولا تَرفعه الكلماتُ، ولا تجازيه القصائِدُ، مهما بلغت من الثناءِ والمحامد.
(الوالدُ) هو السندُ إن مال عليك الأنام، وهو المعين إن ابتسمتْ لك الأيام.
وجودُه وحياتُه حَياة، وقسوته وإرشاده نَجَاة. هو سورُ الأسرةِ وعمودُها، وهو رمزُ أمانها، وسرُّ استقرارها… (الوالدُ) هو مُهْجَةُ الرُّوحِ، وقُرْةُ العين، ونُورُ الحياة، وشمعةُ المنزل. حضورُهُ أُنْسٌ وَأَمَانٌ، ورُؤْيَتُه سعادةٌ واطمِئْنانٌ، وفَقْدُه لا تُعوِّضُهُ الأَثْمان. (الأبُ) هو الرفيقُ الذي لا يَغيبُ، وهو الصديقُ وهو الحبيب، هو ثوبُك وجَسَدُك، وملامِحُك وأحلامُك.. (والدُك) هو رمزُ المحبةِ والعطاء، وعنوانُ التضحيةِ والفداء، وأصلُ المحاكاةِ والاقتداء.. (الوالدُ) هو المربي والموجِّه لك دون تقصير وهو الباذلُ والكريمُ عليك دون بُخْلٍ أو تَقْتِير. يأخذ من نفسِه لِيُعْطِيَكَ، ويَقْطَعُ
مِنْ جَسَدِهِ لِيَفْدِيَك، وإن لم يُعْطِك ما تَتمنى، فقد وَهَبَكَ كلَّ ما وَجَدَ وتعنَّى.. إنه الأب الذي وصى به المولى جل جلاله، وجعل حقه عظيماً، وشكره واجباً محتوماً: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) يا مَنْ تريد رضى رب البريَّات، وتطلب جنة عرضها الأرض والسموات: دونك باباً من أبوابها، قال صلى الله عليه وسلم: (الوالدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ فحافِظْ على ذلك إنْ شِئْتَ أو دَعْ) الإحسان إلى الأب سببٌ لقبول الأعمال؛ قال سبحانه عن عبده الشاكر لنعمته، البارِّ بوالديه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)
استرضاءُ الأب استجلابٌ لرضا الله وجَنَّه، وبُعْدٌ عن غضب الله وَجُنَّه، قال صلى الله عليه وسلم: (رِضَا اللهِ في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد)
قف يا عبدَ الله تأملْ معي قَدْرَ والِدِكَ، وفضلَهُ عليك، وإحسانَه إليك، فوالدك أنت نطفته، وقطعة منه، يرى فيك أملَهُ وذِكْرَهُ وبَقَاءَهُ.
لا تسل عن السرور، ولا عن الفرح الذي غشيه، ولا عن السعادة التي لفته حين بُشِّرَ بك، وأنت في أحشاء أمك. ويزداد سرواً كلما تقدَّمت في الحمل شهوراً.
يَنْتظرُ بشوقٍ لإطلالتِكَ، ويَتَحَيَّنُ بِلَهَفٍ لإشراقتك… يَعُدُّ الأيامَ واللياليَ لهذا اللقاءِ الجميل، كم سَرَّحَ في خيالِهِ من مَشَاهد؟ وكمْ هَامَ في وجْدَانِهِ من أُمْنِيات؟
ولمَّا حَانتْ ساعةُ خروجِك، وعَانَتْ أمُّكَ ما عَانَتْ من خُروْجِكَ، إذا والدك يعيشُ المعاناةَ والاضطراب، وكأنما يشاطرها الألَم والأوجاع، ويبتهلُ لله أن يخففَ ألم المخاض، حتى إذا سَمِعَ صرخاتِك فزَّ قلبُهُ وحنَّ! ورَقْرَقَتْ دَمَعاتُهُ وأنَّ! فرحاً بقدومك! وابتهاجاً برؤيتك! لا تَسَلْ عنْ نَظَراتِ المحبةِ، ولا عن لمساتِ الرحمةِ، ولا عن نبضات الحنان، فتلك لحظات لا تنسى في تاريخك عند أبيك.
ثم لا تزيده الأيام إلا حباً لك وتعلَّقا بك، حتى تصبحَ أنت الرقمَ الأولَ والأهمَّ في حياتِهِ، لتكونَ أنتَ المخدومُ في لَيْلِهِ ونهارِهِ. فكرُه معك، وقلبه يدور حولك، وسؤاله لا يبرح عنك. يفرح حين يرى ابتسامتك، ويغتم حين تجاورك أسقامك… راحتُهُ أنْ يضمَّكَ إلى صدْرِهِ، يَخافُ عليك من اللَّمْسَة، ويُشْفِقُ عليكَ من الهمسة، فكم مِنْ ليلةٍ سَهَرَها من أجلِ راحتِكَ، وكم من دمعاتٍ رقرقها خوفاً على صحتك، وما إن تبدأَ خطواتِك الصغيرةِ بالثَّبات إلا وقد رُسِمَتْ لوحة جميلة على محياه.
يرمقك بنظراته، ويحيطك بعنايته، أوامرك مطاعة، وطلباتك مجابة، يفرح لفرحك، ويغضب لغضبك، ويغتم لحزنك، فكم من دموع لك أزالها؟ وكم من هموم عن صدرك أزاحها؟ حتى إذا صَلُبَ عودُك، وزَهَرَ شبابُك، كنت أنت رمز فخره، وعنوان مباهاته، يُسَرُّ بنجاحِكَ، ويَسْعَدُ برؤيةِ آثارِك… أَتَتْ سنوات تربيتك، فعانى ما عانى في تربيتك، فكم من أيام عاشها ألماً بسبب عنادِكَ ومناكَفَتِكَ، وكم من حسرات تجرَّعها كمداً من طيشك ومراهقتك. يخاف عليك محبة بك، ويعاتبك مودة لك، ويؤدبك تقويماً وشفقة عليك. يَعْرَقُ لاحتياجاتك وبناء حياة كريمة لك، ويَكْدَحُ لإسعادك ومستقبلك.
كم من دعوات في الأسحار، ابتهل فيها للملك الجبار، وأنت لا تدري.
وكم من لوعات دامت، ودموع على المحاجر تجمَّعت، من أجلك أنت وأنت لا تدري.
أمنيتُه أن يرفرف التوفيق والنجاح في سمائك، وغايته أن ترافق السعادة في يومك وحياتك. يُعْطيكَ كلَّ شيء ولا يَطلبُ منك أجراً، ويَبْذُلُ لك ما في وسعه ولا ينتظر منك شكراً.. أحسن إليك إحسانًا لا تَراه، وقدَّم إليك معروفًا لن تُجازاه.. عجباً لك أيها الأب. يُسيءُ إليكَ الابنُ وتدعو لهُ، يبخلُ عليكَ وتكرمُه، يَبعدُ عنكَ وتدنو منه، يكذبُ عليكَ وتَصدقُ معه، تحبُّه وتتمنى سعادتَه ولو أبغضَكَ، تتمنى حياتَه ولو تمنى موتَكَ، أعظمُ الألمِ هو أن تراهُ عاقاً عاصياً هائماً، وأنتَ تُناديهِ: يا بُنيَّ أقبلْ على ربِّكَ تائباً نادماً، (وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ *قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)، ومع ذلكَ أخذتْه عاطفةُ الأبوَّةِ، (وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ).
اللهم يا من قلت وقولك الحق (وَبِالْوَالِدَيْنِ إحساناً) إنا نسألك رضاك ثم رضا والدينا، اللهم اغفر لوالدينا، وارحمهم، وتجاوز عنهم. وأدخلهم الجنة بلا حساب، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أمر بالإحسان بالوالدين والقول لهما قولاً كريماً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله مبشراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين شكروا لله ولوالديهم، فأولئك كان سعيهم مشكوراً، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها المسلمون والمسلمات: البرُّ بالأب يتأكَّد يوم يتأكد إذا تقضَّى شبابه، وعلا مشيبه، ورقَّ عظمه، واحدودب ظهره، وارتعشت أطرافه، وزارته أسقامه، في هذه الحال من العمر لا ينتظر صاحب المعروف والجميل من ولده إلا قلباً رحيماً، ولساناً رقيقاً، ويداً حانيةً… أيها الإخوة: من المحزن لكل مسلم ما نسمعه بين الفينة والأخرى من أن فلاناً قد ساءت علاقته بوالديه.. وربما لم ير أباه أياماً وربما شهوراً وربما عياذاً بالله سنين.. أين هؤلاء من وعيد الله ورسوله وتهديده على أعواد منبره حين قال: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ)
أيها الابن: كم أسعدك أبوك في صغرك وحنا عليك بعد كبرك.. واليوم وبعدما كبرت تغير كل شيء…! حتى الزيارة صارت عليك ثقيلة…! وحديثه صار مملاً والوقت معه محدوداً.. الأنس لغيره والبشاشة وحسن المنطق لسواه.. آه ثم آه من هذا العقوق.. أيها المقصر بحق والديك ألا تخاف من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك.
يا أيها البارُّ بأبيه: تذكَّر قول المولى جل جلاله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) فتخلَّق بالذل بين يديه بقولك وفعلك، لا تَدْعُه باسمه؛ بل ناده بما يحب، لا تجلس قبله، ولا تمشِ أمامه، قابله بوجه طلق وابتسامة وبشاشة وتشرف بخدمته، وتحسس حاجاته. إن طلب فبادر أمره، وإن سقم فقُمْ عند رأسه، أَبْهِجْ خاطره بكثرة الدعاء له، لا تفتأ أن تدخل السرور على قلبه في كل ما يحب؛ قدم له الهدية، وزفَّ إليه البشائر، واستشعر وأنت تقبل وتعطف على أبنائك عطف أبيك وحنانه بك، وردِّد في صبحٍ ومساءٍ: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)… أيها البارُّ بوالده: إن كان تاج رأسك ممن قضَى نَحْبَه ومضى إلى ربه؛ فأكثر من الدعاء والاستغفار له، وجدِّد برَّك به بكثرة الصدقة عنه، وصلة أقاربك من جهته، جاء رجلٌ إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل بقي من برِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهُما به بعد موتِهما؟ قال: نعم؛ الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدِهِما من بعدهما، وصلة الرَّحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما… وإن كان والدك على قيد الحياة، فهنيئاً لك الحسنات الدارات، هنيئاً لمن أصبح وأمسى وهو يتقلب في رضا ربِّ الأرض والسموات..وخاتمة الوصايا لمن كان له والد: أن يحسن صحبته، ويطلب رضاه ودعوته، وليرفق به، وليتلطف معه، وليكثر من تقبيل يديه، ولزوم قدميه، فلطالما تعبت هاتان اليدان من أجل تربيتك وإسعادك، ولطالما تشققت تلك الأقدام الضعيفة من أجل الضرب في الأرض من أجل لقمة عيشك أنت ومن معك.
وأخيراً: تذكر ليلة تصبح فيها بلا أب مشفق، يدعو لك، ويسأل عنك، تذكر يوماً تحثو فيه التراب على أبيك صاحب القلب الكبير، والوجه النضير. تذكر ساعةً تدخل فيها المنزل، فلا تسمع صوته ولا تبصر رسمه.. فاستغفر ربك أخي المقصِّر، وعاهد نفسك من هذا المكان على استدراك ما فات، بالبر والإحسان فيما هو آت، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بِأَنـَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنا وَأُمَّهَاتِنا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبـُّونا صِغَاراً، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيّاً فَمَتِّعْهُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ عَلَى طَاعَتِكْ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ فَتَوَلَّهُ بِرَحْمَتِكَ وَأَنْزِلْ عَلَيْهِ مِنْ وَاسِعِ رَحْمَتِكَ. اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَرِيضاً فَاشْفِهِ وَعَافِهِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَأَسْبِلْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِهِمَا مِنَ البَارِّينَ الْمُشْفِقِينَ العَطُوفِينَ، وَاجْعَلْنَا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُما فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَارْزُقْنا بِـرَّ أَبْنائِنا وَبَناتِنا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين المقربين وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين. اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم. وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.. اللهم ادفع وارفع عنا الوباء والغلاء والربا والزنا والزلازل والمحن والفتن، وسيء الأسقام والأمراض ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً. اللهم أحفظ أهلنا في فلسطين وأحفظ مقدسات المسلمين، والمسجد الأقصى، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين