خطبة الجمعة.. مشاهد من أهوال يوم القيامة

مشاهد من أهوال يوم القيامة

فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

2 ذو القعدة 1445هـ – 10 مايو 2024 م

 

 

الحمد لله الذي وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً، خلَّق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، نِعَمُه تترى، وآلاؤه لا تُحصى، نحمده سبحانه ونشكره، ونثني عليه ونستغفره، ونشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، من اتبع هداه فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرَض عن ذِكْره فإنَّ له معيشة ضنكاً، ويُحشَرُ يومَ القيامةِ أعمى، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، ومَنْ سار على نهجهم واقتفى وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعدُ، فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فتقوى الله سعادةٌ ونجاةٌ في الدنيا والآخرة، ومَنْ خاف الآخرةَ عَمِلَ بما سَمِعَ مِنْ تذكرةٍ ومَنْ طال أملُه ضَعُفَ عملُه، وكلُّ ما هو آتٍ قريبٌ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)… معاشر المسلمين: إنّ مَن يتأمّل فيما حولَه مِن مخلوقاتِ الله، يجدُ أنّ لكلٍّ منها عِلَّةً وغاية، وأنّ له خاتمةً ونهاية، وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فأنتَ أيُّها الإنسانُ أيضاً لَـمْ تُوجدْ سُدًى، ولم تُخلَقْ عَبَثًاً، بل لك غايةٌ عظيمةٌ، بيّنَها لك خالقُك سبحانه في قولِه: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). وقد جعلَ اللهُ تعالى لكَ يوماً تنتهي فيه حياتُك، ثمّ بعدَه يوماً تَصيرُ فيه إلى ربِّك، فيُعيدُ خلقَك، ويُقيمُك مِن قبرِك، فيُطلعُك على صَحَائفِك، ويُحَاسبُك على أعمالِك، فإمّا ناجٍ مكرَّمٌ في جنّاتِ النّعيم، وإمّا هالكٌ مُخلّدٌ في العذابِ الـمُقِيم. (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (يَومَ يَفِرُّ الْـمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَومَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه). يَومَ تَكُونُ السماءُ كَالـمُهل، وتكونُ الجِبالُ كَالعِهن، فتَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وتَسيرُ الجبالُ سَيراً، قد كُوِّرَتِ الشمسُ، وانْكَدَرَتِ النّجومُ، وبُعْثِرَتِ القُبُورُ، وحُشِرتِ الوُحوشُ، وعُطِّلَتِ العِشارُ، وأُشْعِلَتِ البِحَار. يَومَ يُحشرُ الناسُ، واجفةً قلوبُهم، ذاهلةً عقولُهم، شاخصةً أبصارُهم، عاريةً أجسامُهم، حافيةً أقدامُهم، يقول تعالى: (يَومَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون * إِلَّا مَن أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)..

عباد الله: وإن شر من يحشر يوم القيامة، هو من يحشر على وجهه، يقول تعالى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرٌ على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة) والعباد يوم القيامة يبعثون على ما ماتوا عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه)؛ أي: على الحال التي مات عليها من إيمانٍ، أو كفرٍ أو يقينٍ أو شكٍ أو عملٍ صالحٍ أو فاسد، فالذي يموت وهو محرم، يبعث يوم القيامة محرماً، ومن قتل أو مات شهيداً يبعث يوم القيامة له جرحٌ يثعب دماً، علامة افتخار بين الخلائق، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك. فالناس يوم القيامة يجنون ما قدموه لاسيما ما يكون في آخر أعمارهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم) ومن أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب أهل الضلالة والإجرام والفساد حشر معهم، ومن أحب الأنبياء والعلماء والأتقياء حشر معهم. يقول تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) يعني: أتباعهم، وأشباههم، والذين عملوا بأعمالهم الباطلة. كما قال تعالى: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) هُنَالِكَ عباد الله تُحَدِّثُ الأرضُ أخبارَها، فتَشهَدُ على كلِّ أحدٍ بما عمِل على ظهرِها، تقولُ: عَمِلَ كذا وكذا، يومَ كذا وكذا. فمَا ظنّكُم بالكافر والفَاجِرِ العَاصِي في ذلكَ اليوم؟ يومَئذٍ تَذهَلُ المرضِعةُ عن رضيعِها، وتضعُ كلُّ ذاتِ حملٍ حملَها وترى الوليدَ الصغيرَ قد شابَ مِن هَوْلِ مَا يرى وَتَرَى النّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)

يومُ القيامةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَولِهِ

                                    لَفَرَرْتَ مِن أهلٍ ومِن أَوْطَانِ

يومٌ عَبُوسٌ قَمْطَريرٌ شَرُّهُ

                                     وتَشِيبُ منه مَفَارِقُ الوِلدَانِ

في ذلك اليومِ، تَدنُو الشَّمسُ مِن رُؤوسِ الخلائقِ قَدْرَ مِيلٍ، فيَعرَقُون على قَدْرِ أعمالِهم، (فَمِنهُم مَن يكونُ العرَقُ إلى كعبَيْهِ، ومِنهُم مَن يكونُ إلى رُكبَتَيْهِ، ومِنهُم مَن يكونُ إلى حِقْوَيْه، ومِنهُم مَن يُلجِمُهُ العَرَقُ إلجَامًا) كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم …يومئذٍ تتطايرُ صحائِفُ الأعمالِ: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي: ظنّ أنّه لا يُبعَث بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا. هنالكَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ المؤمنين، وتَسْوَدُّ وُجُوهُ الكافرين. وتَتنَزّلُ الملائكةُ والرّوحُ، فيقومون صَفًّاً، ويَجيءُ الربُّ لفصلِ القضاءِ، فتَخشعُ الأصواتُ للرحمنِ، فلا تَسمعُ إلا هَمْساً، (وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) فيتَقَطّعُ الظالمونَ نَدَماً على ما فعلوا في الدنيا، ويُجاءُ بجهنّمَ لها سبعونَ ألفَ زِمَامٍ، مع كلِّ زِمَامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها، يقول تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي.)

ويومئذ يقف الناس ويحشرون حفاةً عراةً غرلاً، حتى ما قطع من الإنسان في ختانه سيعود عليه مرة أخرى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس حفاةً عراةً غرلاً)، فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: (الأمر أشدٌّ من أن يهمهم ذلك)؛

والناس في الحساب يوم القيامة أقسام فمنهم من يكون حسابه بين يدي الله عسيراً، وهؤلاء هم الكفرة الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وكذبوا المرسلين، وكذلك عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب ظلمهم وعِظم ذنوبهم.. ومن الناس من يدخلون الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب، ومن الناس من يحاسب حساباً يسيراً، وهؤلاء لا يناقشون الحساب ولا يدقق معهم ولا يحقق معهم، وإنما تعرض ذنوبهم عرضاً، ثم يتجاوز الجبار عز وجل عنهم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك)، فقالت عائشة: يا رسول الله! أليس قد قال الله:(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) فقال رسول الله: (إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك). يومَئذٍ تُنصبُ الموازينُ لِوَزنِ الأعمال: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) يومَ يُؤتَى بالإنسان له صلاةٌ وصيامٌ وزكاةٌ، وقَدْ ضَرَبَ هذا، وأَخَذَ مالَ هذا، وشَتَمَ هذا، فيَأْخُذُ هذا مِن حسناتِه، وهذا مِن حسناتِه، وهذا من حسناتِهِ، حتّى تَفْنَى حسناتُه، فإِنْ بَقِيَ لهم حَقٌّ أُخِذَ مِن سيئاتِهم فطُرِحَت عليه، ثمّ طُرِحَ في النّار.

والله لَتُؤَدَّيَنَّ الحقوقُ إلى أهلِها، حتى يُقْتَصَّ للشّاةِ الجَلْحَاءِ مِن الشاةِ القَرْنَاء. فالسَّعيدُ مَن سَلِمَ في ذلكَ اليومِ العظيم.. ولقد دلَّت نصوص الكتاب والسُّنة على أنَّ العبد وعمله، وصحيفة أعماله، كلُّ ذلك يُوضَع في الميزان يومَ القيامة، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بالمرء فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، فَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَتَمَايَلَ بِهِ الْمِيزَانُ، قَالَ: فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ، فَإِذَا أُدْبِرَ بِهِ، إِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: لَا تَعْجَلُوا لَا تَعْجَلُوا، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فِيهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتُوضَعُ مَعَ المرء فِي كِفَّةٍ حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ.

أيها المؤمنون: إنَّ من أهوال يوم القيامة، موقفَ توفية الموازين، حتى إن العبد لَينخلع فؤادُه، وتعظُم كروبُه، ناسياً أهلَهُ وأحبابَه، مشغولاً بما يراه أمامه، وهو ينتظر حصيلةَ عملِه، فلا يهدأُ روعُه، حتى يَرى أيخفُّ ميزانُه أم يثقُل؟، فمَنْ ثَقُلَ ميزانُه، نُودِيَ في مجمع فيه الأولون والآخِرون: ألَا إنَّ فلانَ ابنَ فلانٍ، قد سَعِدَ سعادةً لا يشقى بعدَها أبداً، وإذا خفَّ ميزانُه، نُودِيَ على رؤوسِ الخلائقِ: ألَا إنَّ فلانَ ابنَ فلانٍ، قد شَقِيَ شقاوةً لا يَسعَدُ بعدَها أبداً… وعن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، أنها ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكِ، قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً: عِنْدَ الْمِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ، حِينَ يُقَالُ: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه) حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ، أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ)

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) اللهم ثقل موازيننا بالحسنات وكفر عنا السيئات، وأظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم برحمتك يا أرحم الراحمين.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيهِ كما يحبّ ربُّنا ويرضى، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له في الآخرة والأولى، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّداً عبده ورسوله النبيُّ المجتبى والعبد المصطفى، صلِّى وسلّم وبارِك عليه وعلى آله وأزواجه وأَصحابِه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: كلُّنا وللهِ الحمدُ يؤمنُ باليوم الآخر، يوم الحساب، ومَا عندَنا فيه مِن شَكٍّ ولا ارتِيابٍ، غيرَ أنَّنا في غفلةٍ ساهُون، وعنِ الاستعدادِ له مُعرِضُون، وفي دُنيانا السُّفلَى ولذائذِنا مُنغَمِسُونَ لاهُون، إنّنا لَنَعملُ للدنيا كأنّنا نُعمَّرُ فيها، ونُفرِّطُ بأعمالٍ وأوقاتٍ لا يُمكِنُنا استِدراكُها وتلافيها، فمَا بَعدَ الشبابِ -إنْ قُدِّر للإنسانِ البقاءُ- إلا الهَـرَم، وحينذاك يَقرُبُ الموتُ، ويستولي الهمُّ والحَزَن والنَّدَم.

 إنّ الدُّنيا ما هِي إلا مَزرعةٌ للآخرةِ، (يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ). يقول الإمام عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: (إنَّ أَخوَفَ ما أخافُ عليكُم اتِّباعُ الهَوَى وطولُ الأمَلِ، فأمَّا اتِّباعُ الهَوى فيَصُدُّ عنِ الحَقِّ، وأمَّا طولُ الأمَلِ فيُنسِي الآخِرةَ، ألَا وإنَّ الدُّنيا قد تَرحَّلَتْ مُدبِرةً، ألَا وإنَّ الآخِرةَ قد تَرحَّلَتْ مُقبِلةً، ولكلِّ واحدةٍ منهما بَنُونَ، فكُونوا مِن أبناءِ الآخِرةِ ولا تكُونُوا مِن أبناءِ الدُّنيا؛ فإنَّ اليومَ عَمَلٌ ولا حِسابَ، وغدًاً حِسابٌ ولا عَمَلَ.

أيها المؤمنون: عندما ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، فسدت القلوب، وكثرت الذنوب، وظهر الظلم والجشع والعدوان في أبشع صوره، وتعدى الإنسان على أخيه الإنسان، وأصبح المرء لا ينظر إلا إلى مصلحته دون غيره، وأصبحت الغاية تبررها الوسيلة، والتعامل المادي بين البشر شعار الوقت ودستور الزمان، إلى جانب كثرت الهموم والقلق النفسي الذي أصاب كثيراً من أبناء هذه الأمة.وأصبح الناس في غفلة لن يدركوا خطرها حتى يداهمهم الموت، وعندها لا ينفع الندم قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)

عباد الله: عندما ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر في قلوب كثير من الناس عق الابن أباه وهجر الأخ أخاه وضيعت الأمانات، وظهرت الخيانات وسفكت الدماء، وأصبح المرء لا يعطي للدين وزناً، ولا للشرع قدراً ولا للأخلاق أهميةً في حياته وأثراً… لقد نسي كثير منا إلا من رحم الله، أن هناك يوماً آخر ولقاءً أمام ملك الملوك للجزاء والحساب، ففسدت قيمنا وساءت تصرفاتنا وتجرأنا على الحرام، وانتهكنا الحدود وقتلت النفس المعصومة، وتعامل الكثير منا بالرشوة وشهادة الزور، وقصر الوالد في تربيته لأولاده، والموظف في وظيفته، وظهر الغش وقل الإنتاج، وضعف المعروف بين الناس، واختفت الأخوة، وبرزت العصبية الجاهلية للأنساب والأحساب، وظهرت الفتن الطائفية والمذهبية والتعصب للأفراد؛ فأوغرت الصدور بالحقد والحسد والضغائن، وحل التقاطع وقامت الحروب وغير ذلك، فهل يوجد بمن هذه صفاته، هل يوجد في قلبه ذرة من إيمان؟ وهل أدركنا خطورة الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة؟ إن العمل لهذه الدنيا مطلوب، وتعميرها بما أمر الله من الواجبات العظيمة لكن الغفلة عن حقيقة الدنيا والموت والحساب وهول المطلع والوقوف بين يدي الله يجب ألا يفارق عقولنا وقلوبنا أو لحظة من لحظات حياتنا.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم نَجِّنَا مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ وشدائدِ وأهوال يوم الطّامّة وبَيِّض وجوهَنَا إذا اسودَّت وجوهُ العُصاة في موقف الحسرةِ والنّدامة.

اللهم إنّا نسألك أن تجعل لنا قلوباً لا تنسى هذا اللِّقاء طوال حياتها، حتى تتوفّانا على حُسنِ الاستعداد للقائك يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.

اللهُمَّ كن للمظلومين في فلسطين وغزة وفي كل مكان، اللهمَّ اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

اللهم احفظهم واحرسهم بعينك التي لا تنام، وأرزقهم الثبات والقوة والنصر والتمكين وبارك في إيمانهم وصبرهم يا سميع الدعاء.

اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم والدينا وذوي الحقوق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)