من أسباب حفظ الله لعباده
فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان
27 جمادى الأولى 1446 هـ – 29 نوفمبر 2024 م
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعْدُ: فيا عباد الله: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: يعيش الإنسان في هذه الحياة الدّنيا، وهو يأمل أن يشمله الله سبحانه برعايته وحفظه، ويدفع عنه شرور الدّنيا وأذى الخلق ووساوس الشّيطان، ولا شكّ بأنّ هذا الحفظ الرّباني للعباد لا يكون إلاّ بأخذ العبد بالأسباب التي تؤدّي إلى ذلك، وهي: أن يحفظ العبد ربّه في قوله وعمله وسائر تصرّفاته في الحياة ومعاملاته مع النّاس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح وهو يوصي أبن عمه عبد الله بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)… أَيُّهَا المؤمنون: إن الْمُتَأَمِّلَ لِهَذَا الْحَدِيثِ الجليل وَالنَّاظِرَ فِيهِ يَجِدُهُ أَصْلاً عَظِيماً فِي صِدْقِ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ وَالتَّعَلُّقِ بِهِ وَتَفْوِيضِ الأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ؛ لقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، ذلك الغلام الفذ علّمه تلك الوصايا العظيمة الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة، وفيه درس عظيم لنا في أن نعلم أبناءنا وبناتنا ونساءنا ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وبث النصح والتوجيه المستمر وفي الوقت المناسب لتكون مصابيح في طريقهم إلى الخير.. فَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ) أَيْ: احْفَظْ حُدُودَهُ وَحُقُوقَهُ وَأوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَه، بِالْوُقُوفِ عِنْدَ أَوَامِرِهِ بِالامْتِثَالِ وَعِنْدَ نَوَاهِيهِ بِالاجْتِنَابِ وَعِنْدَ حُدُودَهُ فَلا تَتَجَاوَزُ مَا أَمَرَ بِهِ وَأَذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ. وأن من حفظ حدود الله عز وجل وَجَدَ الله معه فِي جَمِيع الأحوال؛ يحوطه وينصره ويحفظه ويؤيده ويسدده، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) فإن الجزاء من جنس العمل.. وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِهِ: حِفْظُ التَّوْحِيدِ وَتَجْرِيدُهُ للهِ تَعَالَى خَالِصاً لِوَجْهِهِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الشِّرْكِ بِأَنْوَاعِهِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ وَقِوَامُهُ وَهُوَ أَعْظَمُ الْحُقُوقِ وَأَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ أَسَاسُ قَبُولِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) فَمَنْ حَفِظَ تَوْحِيدَهُ وَعَقِيدَتَهُ حَفِظَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ). عباد الله: وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ أَيْضاً: حِفْظُ اللهِ بِالْعِبَادَاتِ كُلِّهَا، وَالَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا: حِفْظُ الصَّلاَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَالأَرْكَانِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَهِيَ سِرُّ النَّجَاحِ وَأَصْلُ الْفَلاَحِ؛ لأَنَّهَا عَمُودُ الإِسْلاَمِ، وَأَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ يوم القيامة، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْمُحَافَظَةِ عليها فَقَالَ:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وقال صلى الله عليه وسلم في حق المحافظ على الصلاة: مَن حافَظَ عليها كانَتْ له نوراً وبُرْهاناً ونَجاةً يَومَ القيامةِ، ومَن لم يحافِظْ عليها لم يكُنْ له نورٌ ولا بُرْهانٌ ولا نَجاةٌ) وقد أثنى الله تعالى على من حفظ حدود الله، قال جل وعلا: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) ۗ وقال تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)
أيها المسلمون والمسلمات: وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَأْمُورِ بِحِفْظِهَا الرَّأْسُ وَالْبَطْنُ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)، قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتُ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) وَحِفْظُ الرَّأْسِ وَمَا وَعَى يَدْخُل فِيهِ حِفْظُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) وَحِفْظُ الْبَطْنِ وَمَا حَوَى يَتَضَمَّنُ حِفْظَ الْبَطْنِ مِنْ إِدْخَالِ الْحَرَامِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ.
عباد الله: وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ مِنْ نَوَاهِي اللهِ اللِّسَانُ وَالْفَرْجُ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن يَضْمَن لي (أو من حفظ) لي ما بيْنَ لَحْيَيْهِ- أي لسانه- وما بيْنَ رِجْلَيْهِ- أي فرجه، أضْمَنْ له الجَنَّةَ.
أيها الأخوة والأخوات في الله: وَحِفْظُ اللهِ لِعَبْدِهِ نَوْعَانِ؛ أَحَدُهُمَا: حِفْظُهُ لَهُ فِي مَصَالِحِ دُنْيَاهُ كِحِفْظِهِ فِي بَدَنِهِ وعقله وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، ولهذا كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يَدَعُ هؤلاء الدعواتِ حينَ يُمسي، وحينَ يُصبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي). وقال الإمام علي رضي الله عنه: إِنْ مَعَ كُلِّ امرئ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ، فَإِذَا جَاءَ القَدَرُ خَليا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَإِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينة.
أيها المؤمنون: وحفظ الله تعالى وجده أنبياء الله ورسله، فقد وجده إبراهيم عليه السلام في النار، ووجده يوسف عليه السلام في الجب، ووجده يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، كما وجده موسى عليه السلام في اليَم وهو طفل مجرد من قوة ومن كل حراسة، كما وجده في قصر فرعون وهو عدو له متربص له، وهكذا وجدها جميع الأنبياء والأولياء والصالحين.. قال بعض العلماء: ومَنْ حَفِظَ اللهَ في صباه وقوته؛ حَفِظَه اللهُ في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بعقله وسمعه وبصره وحوله وقوته. فقد روي عن أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري رحمه الله أنه قد جاوز المئة عام وهو ممتع بعقله وقوته فوثب يوماً من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر. النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْحِفْظِ وَهَوُ أَشْرَفُ النَّوْعَيْنِ: حِفْظُ اللهِ لِلْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَحْفَظُهُ الله فِي حَيَاتِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُضِّلَّةِ وَمِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَيَحْفَظُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَيَتَوَفَّاهُ على الإيمان والإسلام فأي نعمة أعظم من هذه، وأي سعادة أعظم من هذه السعادة، في الوقت الذي يتهاوى فيه كثير من الناس في الشهوات والشبهات، وقد ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول عند منامه: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ وجْهِي إلَيْكَ وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ ولَا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ، وبِنَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ، فإنْ مُتَّ مِن لَيْلَتِكَ فأنْتَ علَى الفِطْرَةِ واجْعَلْهُنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ بهِ.
أيها المسلمون: أما قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس (إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) فهذا منتزع من قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فإن السؤال لله هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة. فتضمَّن هذا الكلامُ أن يُسأل الله عز وجل ولا يُسأل غيره، وأن يستعان بالله دون غيره، فأما السؤال فقد أمر الله بمسألته، قال تعالى: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) وفي النهي عن سؤال المخلوقين أحاديثُ كثيرةٌ صحيحة، وقد بايَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه رضوان الله عليهم على أن لا يسألوا الناسَ شيئاً، وكان أحدهم يَسقط سوطُه أو خطام ناقته، فينزل بنفسه ليأخذه، ولا يسأل أحداً أن يناوله إياه.. عباد الله: ثم قال صلى الله عليه وسلم موصياً ابن عمه: (واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ) وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) وقال صلى الله عليه وسلم: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) وقال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يؤمنُ عبدٌ حتَّى يؤمِنَ بالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ ؛ حتَّى يعلمَ أنَّ ما أصابَهُ لم يَكن ليخطئَهُ وأنَّ ما أخطأَهُ لم يَكن ليصيبَهُ) ومدار جميع هذه الوصايا على هذا الأصل، وما ذُكر قبله وبعده فهو متفرِّع عليه وراجع إليه، فإن العبد إذا علِم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خيرٍ وشر، ونفعٍ وضر، وأن اجتهاد الخلْق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد على الإطلاق، علم حينئذٍ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك على العبد توحيدَ ربه عز وجل وإفراده بالطاعة، وحفْظ حدوده، فمن علِم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب ذلك إفرادَه بالخوف والرجاء، والرغبة والرهبة والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأنه يتَّقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً، وإفراده بالاستعانة والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرخاء، بخلاف ما كان عليه المشركون من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال تعالى: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقال جل وعلا (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)
نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه ويكلانا برعايته وعنايته، ويرزقنا مراقبته وخشيته في السر والعلن إنه سميع مجيب الدعاء.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، ونشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون: ومن حفظ الله تعالى للعبد أن يحول بينه وبين الوقوع في المعصية كما حفظ الله يوسف عليه السلام: قال جل وعلا (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وقال الحسن البصري رحمه الله: (هَانُوا عَلَيْهِ فَعَصَوْهُ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ)، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ، كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) وَإِنْ عَظَّمَهُمُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ أَوْ خَوْفًاً مِنْ شَرِّهِمْ، فَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ أَحْقَرُ شَيْءٍ وَأَهْوَنُهُ) وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما. وقال بعض أهل العلم: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، فما يزالون في حفظٍ من الله وستر.
عباد الله: ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدنيا من الولايات والمناصب أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهيته لذلك. قال الصحابي الجليل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: إن العبد ليهمّ بالأمر من التجارة أو الإمارة فينظر الله إليه فيقول للملائكة اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير (أي يتشاءم) يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل عليه.. ومن أنواع حفظ الله لعبده في نفسه وبدنه فقد وكل الله عز وجل ملائكة يحفظون العبد من بين يديه ومن خلفه، كما قال عز وجل: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) قيل: المعقبات ملائكة تحفظ العبد، فإذا جاء القدر تخلوا عنه، فالله عز وجل وَكَّل ملائكةً يحفظون العبد من بين يديه ومن خلفه، ويدفعون عنه الشرور والمهالك، ولكن إذا قدر الله عز وجل شيئًا فإن الملائكة الحفظة يتركون العبد؛ من أجل أن ينفذ فيه قدر الله وقضاؤه قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: لا يحدث شيء في الأرض إلا بإذن الله عز وجل. (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) وفي الجملة فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأتي شيئاً مما يكرهه الله، قال بعض السلف: من أحب أن تدوم له العافية فليتق الله عز وجل. وقال بعض أهل العلم: من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه.
فتأمل في حفظ الله لعباده الصالحين، قد حفظهم في أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ثم هو يحفظهم في أعظم ما يحملون في دينهم، بل ويحفظهم من كل سوء لم يقدره عليهم، فهنيئاً لأولئك الذين صبروا على طاعة ربهم تبارك وتعالى، وهنيئاً لمن راقب الله في جوارحه ولسانه وأعمال قلبه، قد نالوا حفظ الله لهم، ومن يحفظه الله فلا يمكن لأي قوة في الأرض أن تخترق هذا الحجاب المنيع. أما الذين ضيعوا أمر الله فوا أسفى على حياة ما تلذذوا بها، وعلى أيام حيل فيها بينهم وبين ما يشتهون، فانقلبت لذتهم حزناً وصفوهم كدراً. فاتقوا الله عباد الله واحفظوا الله بحفظ أوامره واجتناب نواهيه، يحفظكم بدينكم ودنياكم.
اللهم أنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته لأحد من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تحفظنا من كل شر وسوء ومكروه يا رب العالمين.
اللهم أحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا. اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله. اللهم أحفظنا وأحفظ أولادنا وبارك لنا في ذريتنا وفي أموالنا وفي صحتنا وفيما رزقتنا، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، الْلَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أُمُوْرِنَا، الْلَّهُمَّ وفق مَلِكِنَا حَمِدَ بْنَ عِيْسَىْ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ رئيس وزرائه سلمان بن حمد، الْلَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَىَ وَخُذْ بِنَوَاصِيْهِمْ لِلْبَرِّ وَالْتَّقْوَىْ وَسَدِّدْ عَلَىَ طَرِيْقِ الْخَيْرِ خُطَاهُمْ، وَهَيِّئْ لَهُمْ الْبِطَانَةَ الْصَّالِحَةَ الْنَّاصِحَةَ يَا رَبْ الْعَالَمِيْنَ. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمعذبين في كل مكان كن لهم ناصراً، ومؤيداً، ومعيناً، وظهيراً. اللهم كن لأهلنا في فلسطين والأقصى وغزة وفي كل مكان، اللهم فرج همهم ونفس كربهم، وارفع درجتهم وأخلفهم في أهليهم، وارحم أطفالهم وشيوخهم ونسائهم، واكتبهم من الشهداء عندك، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم ورد عنهم كيد الكائدين، وعدوان المعتدين يا رب العالمين…
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)