عدنان بن عبد الله القطان
2 ذو الحجة 1443 هـ – 1 يونيو 2022 م
————————————————————
الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ مَن شاءَ مِن عبادِه لتحصيلِ المكاسبِ والأجور، وجعلَ شُغلَهم بتحقيقِ الإيمانِ والعملِ الصالح، والاستكثارِ مِنه، يَرجون تجارةً لنْ تَبور، ونشهد أنَّ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، ونشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الدَّاعي إلى رِضوانه، والمُستكْثِر مِن طاعته وتُقاته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومَن سَلك طريقَهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فأوصيكم عباد الله بتقوى الله، اتَّقوا الله ربكم، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واعتبروا بما ضاع مِن أوقاتكم، واتَّعظوا بمن مضوا قبلكم؛ فإنكم سائرون على دربهم، صائرون إلى مصيرهم، ولا مفرَّ منَ الله تعالى إلاَّ إليه، ولا نجاة إلاَّ بصدق التَّوَجُّه إليه سبحانه وتعلق القلوب به عزَّ وجلَّ، وإخلاص العمل له وحده دون سواه، (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ)
معاشر المسلمين: إن من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا أن جعل لنا مواسم للطاعات، ودعانا إلى الاستفادة منها واستثمارها في تزكية النفس وتربيتها، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً) فقد اختَصَّ الله تعالى بعض الأزمنة بعبادات فُضلت بها على غيرها منَ الزمان، كما اختصَّ ثلث الليل الآخر دون سائر اللَّيل والنهار، بتجلِّيه سبحانه للمُستغفرينَ من عباده والسائلين والداعين، واختص يوم الجمعة بهذه الصلاة العظيمة، وبساعة الإجابة فيها، واختص رمضان بوجوب صيامه، ومشروعية الجماعة في قيامه. واختُصتْ عشرُ ذي الحجة باجتماع أمَّهات العبادات فيها، فكان العمل الصالح فيها أفضلَ منه في غيرها فالصلاة، والدعاء، والصدقة، والجهاد، وقراءة القرآن، وذِكْر الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنَّهي عنِ المنكر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويستحب الصيام فيها لغير الحاج وهو من أفضل الأعمال الصالحة، وعلى المسلم أن يحرصَ على صيام يوم عرفة، فقد خصه النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد عناية، حيث خصه من بين أيام العشر، وبيّن ما رُتب على صيامه من الفضل العظيم، فقد ورد عن أبي قتادةَ الأنصاري رضي الله عنه أنَ رسولَ الله سُئلَ عن صوم يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) وهذا إنما يستحب لغير الحاج، وأما الحاج فلا يسن له صيام هذا اليوم، وفطره أفضل تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم… وكذلك من الأعمال الصالحة نشر ثقافة الحب والتراحم والصدقة لما فيها من التقرب إلى الله تعالى وابتغاء الأجر والثواب منه سبحانه عن طريق البذل والعطاء والإحسان للآخرين قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وغيرها منَ القُرُبات هي في عشر ذي الحجة أفضل منها في غيرها؛ لما صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من عملٍ أزكى عند اللهِ ولا أعظمَ أجراً من خيرٍ يعملُه في عَشرِ الأَضحى، قيل : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ) إنَّ هذه العَشْر المبارَكات التي تحل بنا في هذه الأيام هي أفضل أيام السَّنة، والعمل الصالح فيها – أيًّاً كان نوعه – أفضل منه في غيرها، وهي تقع في آخر شهر من السنة، فكأنها تعويض للمفرطين في عامهم؛ ليتداركوا أنفسهم، ويعوضوا فيها ما فاتهم، ويدركوا بها منزلة من سبقهم، ومن فضل الله تعالى أنها كانتْ في آخر العام؛ فإنَّ العبدَ يَتَذَكَّر بنهاية سنته نهاية عمره، ويندم على ما فرط في أيامه الخالية، ويعقد العزم على استثمار ما بقي من حياته، فإذا هو يستقبل هذه العشر المباركة؛ ليفي بوعده لربه، ويصدق مع نفسه.. إنَّ الله تعالى حين جَعَل هذه العشر المباركات أفضل أيام السنة، فإنَّه سبحانه اختَصَّها بخصائص ليستْ في غيرها، وجعلها زمنًا لعبادات لا تكون في سواها، فهي زمن أداء ركن الإسلام الخامس الحج إلى بيته الحرام لمن أستطاع إليه سبيلاً، فأولُ أيام الحج فيها وهو يوم التروية، وفيها ركنُه الأعظمُ، وهو الوقوفُ بعرفة، ويُتَوَّجُ خاتمتُها وهو يوم النحر بأكثر أعمال الحج، وهي: الرمي، والنحر والحلق، والحل من الإحرام، والطواف بالبيت والسَّعي بين الصفا والمروة. إنها اختُصت بهذه الأيام الثلاثة العظيمة، وفيها مناسك الحج وشعائره الكبيرة، ففي اليوم الثامن يبدأ الحجاج مناسكهم، وفي اليوم التاسع يقفون بعرفة، وهو من أعظم الأيام وأفضلها، ويعتق الله تعالى فيه منَ النار ما لا يعتق في غيره من سائر الأيام؛ كما في حديث أم المؤمنين عَائِشَة رضي الله عنها: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من يَوْمٍ أَكْثَر مِن أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْداً من النَّارِ من يوم عرفة، وإنه لَيَدْنُو، ثم يُبَاهِي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء)؟ وهو اليوم الذي نزلتْ فيه آية الإخبار بكمال الدِّين، وتمام النِّعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعَرَفة؛ فعن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أنَّ رجلاً منَ اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشرَ اليهود نزلتْ، لاتَّخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: أيُّ آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فقال عمر رضي الله عنه: قد عَرَفْنَا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلتْ فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائمٌ بعَرَفَة يوم جمعة). فكان الإخبار عن كمال دين الإسلام، وتمام نعمة الله تعالى به علينا، ورضاه بالإسلام لنا ديناً في اليوم التاسع من هذه العشر المباركة، فاختصتْ بهذا الفضْل العظيم. وفيها ليلة جَمْعٍ، حين يبيت الحجاجُ بمُزدلفة، ويذكرون الله تعالى فيها بعد الفجر إلى الإسفار؛ قال الله تعالى في فضْل هذا الذِّكر في ذلك المشعر المبارك: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) واختُصت العشر بيوم النحر، وهو العيد الأكبر، وهو أفضل من عيد الفطر؛ لاختصاصه بكثير من الشعائر والعبادات، وفيه تُراق الدماء؛ تعظيماً لله تعالى ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، فكان التَنَسُّك بالدِّماء لله تعالى في خاتمة هذه العشر المبارَكة، وكان آخر يوم منها وهو اليوم العاشر عيداً كبيراً للمسلمين، يذكرون الله تعالى فيه على ما هداهم، ويشكرونه على ما أعطاهم؛ يقول تعالى: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وثبت في فضله قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أفضلَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ يومُ النَّحرِ (وهو عاشرُ ذي الحِجَّةِ ثمَّ (يَومُ القَرِّ) وهو ثاني يومِ النَّحْرِ) ويستحب التقربُ إلى الله تعالى فيها بذبح الأضاحي، وهي سنه مؤكدة في أصح قولي العلماء، وتتأكدُ في حق القادر عليها ومَنْ عنده سعة من المال، وليست واجبة، فينبغي للمسلم المستطيع القادر أن لا يفرط فيها، لقول أَنَسٍ رضي الله عنه: ضَحَّى النَّبِيُّ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. والصفحة هي جانب العنق. وقال ابنُ عمرَ رضي الله عنه: أقام النبي بالمدينة عشرَ سنين يضحي.
عباد الله: ومن خصائص هذه العشر المبارَكة: أنَّ الله تعالى نصَّ في كتابه العزيز على ذكره فيها؛ فقال سبحانه: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ). فالأيام المعلومات هي العشر في قول أكثر السلف والعلماء، ومن ذكره سبحانه فيها ما شرع فيها منَ التكبير؛ تعظيماً لله تعالى وإعلاماً بفضيلة هذه العشر وإظهاراً لشعائرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ) وكان بعض الصحابة يخرجون إلى السوق في أيام العشر يكبرون، ويكبر الناسُ بتكبيرهم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهْلَ الذِّكْرِ، فإذا وجَدُوا قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنادَوْا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بأَجْنِحَتِهِمْ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وهو أعْلَمُ منهمْ- ما يَقولُ عِبادِي؟ فيَقولونَ: يُسَبِّحُونَكَ ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ ويُمَجِّدُونَكَ، فيَقولُ الله تعالى: هلْ رَأَوْنِي؟ فيَقولونَ: لا واللَّهِ ما رَأَوْكَ، فيَقولُ الله: وكيفَ لو رَأَوْنِي؟ فيقولونَ: لو رَأَوْكَ كانُوا أشَدَّ لكَ عِبادَةً، وأَشَدَّ لكَ تَمْجِيداً وتَحْمِيداً، وأَكْثَرَ لكَ تَسْبِيحاً، فيقولُ الله: فَما يَسْأَلُونِي؟ قالَوا: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ فيقولُ: وهلْ رَأَوْها؟ فيقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها، فيقولُ الله: فَكيفَ لو أنَّهُمْ رَأَوْها؟ فيقولونَ: لو أنَّهُمْ رَأَوْها كانُوا أشَدَّ عليها حِرْصاً، وأَشَدَّ لها طَلَباً، وأَعْظَمَ فيها رَغْبَةً، قالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ فيقولونَ: مِنَ النَّارِ فيقولُ الله تعالى: وهلْ رَأَوْها؟ فيقولونَ: لا واللَّهِ يا رَبِّ ما رَأَوْها، فيقولُ: فَكيفَ لو رَأَوْها؟ فيقولونَ: لو رَأَوْها كانُوا أشَدَّ مِنْها فِراراً، وأَشَدَّ لها مَخافَةً، فيَقولُ الله تعالى: فَأُشْهِدُكُمْ أنِّي قدْ غَفَرْتُ لهمْ، فيقولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فيهم فُلانٌ ليسَ منهمْ، إنَّما جاءَ لِحاجَةٍ، فيقول الله جل وعلا: هُمُ القوم أو الجُلَساءُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ) … وروي عن سَعِيد بن جُبَيْر رحمه الله تعالى: أنه كان إذا دخل أَيَّام العَشْرِ اجتهد اجْتِهَاداً شَدِيداً حتى ما يكاد يقدر عليه).
فحَرِيٌّ بالمسلم أن يشكرَ الله تعالى على فضل هذه الأيام، وفضْل العمل الصالح فيها، وهي أيام قلائل، وأن يشكره عز وجل على ما شرع فيها من أمهات العبادات، والأعمال الصالحة، وأن يشكرَه عز وجل على بُلُوغها، وهو في أمْنٍ وعافية، ولديه قدرة على الاجتهاد فيها بما يرضي الله تعالى. ومن دلائل الشكر فيها حبس النَّفس على الطاعات ومجانَبة المحرَّمات…
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً إلى عمل الصالحات، ويجنبنا المعاصي والمحرمات، ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة وعند الممات، إنه سميع مجيب الدعاء.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: احمدوا الله عز وجل واشكروه على نعمه المتجددة، وجددوا عزمكم كل يوم على طاعة ربكم عز وجل؛ فلقد أمد سبحانه في آجالكم وأدركتم -بفضله- هذه الأيام المباركة، والتي هي أفضل أيام الدنيا؛ وهي أيام عشر ذي الحجة، والفائز عباد الله من اغتنم هذه الأيام واستغل مرورها قبل أن يفاجئه الموت ولات حين مندم.
مَضى أَمسُكَ الماضي شَهيداً مُعَدَّلاً
وَأَعقَبَهُ يَومٌ عَلَيكَ جَديدُ
فَإن كُنتَ بِالأَمسِ اِقتَرَفتَ إِساءةً
فَثَنِّ بِإِحسانٍ وَأَنتَ حَميدُ
فَيَومُكَ إِن أَغنَيتَهُ عادَ نَفعه
عَلَيكَ وَماضي الأَمسِ لَيسَ يَعودُ
وَلا تُرجِ فِعلَ الخَيرِ يَوماً إِلى غَدٍ
لَعَلَّ غَداً يَأتي وَأَنتَ فَقيدُ
إِذا ما المَنايا أَخطَأَتكَ وَصادَفَت
حَميمَكَ فَاِعلَم أَنَّها سَتَعودُ
واعلموا رحمكم الله أن هذه الدُّنيا التي نعيشها لن نخلَّدَ فيها، وهي لن تبقى إلى الأبد، فلها نهاية كما كان لها بداية، ونحن نعلم أنه في كل يوم يموت خلق كثير ويدفنون، ولا بدَّ أن نكونَ يوماً من الأيام منهم، طال ذلك أم قصر. والدُّنيا بأفراحها وأتراحها، ومسراتها وأحزانها، ويسرها وعسرها ينساها الناس بمفارقتها؛ بل إن الواحد يصيبه عسر شديد، ومصيبة كبيرة، ثم مع مرور الأيام يزول عسرُه، وينسى مصيبتَه، ويذهب همُّه وغمه، وكذلك الإنسان تصيبه سراءُ فيفرح بها فرحاً شديداً، ومع الأيام ينساها ويزول فرحه. وهكذا ما يلحق أهل الإيمان والتقوى من مشقَّة حبس النَّفس على الطاعات، وكفها عن الشهوات؛ فإنَّهم ينسون ذلك بمجَرَّد انتهاء وقته، وذهاب مشقَّته؛ فالصَّائم الذي جاع وعطش ينسى معاناته مع الجوع والعطش بمُجَرَّد فطره، والحاج الذي لحقه منَ المشقة والزحام وطول الانتظار ما لحقه، ينسى ذلك بِمُجَرَّد إتمام حجه، وانقضاء نسكه. وأهل الشَّهَوات المُحَرَّمَة ينسون لذَّة شهواتهم ومتعتها، بمجرَّد مفارقتها، وتبقى السيئات في صحائفهم والأوزار تثقلهم، والهموم والأحزان تملأ قلوبهم، وهذا مِن عذاب الدُّنيا قبل عذاب الآخرة. ونجد هذا المعنى واضحاً كل الوضوح في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيُصبغ في النار صبغة، ثُمَّ يقال: يا ابن آدم، هل رَأَيْتَ خَيْرًا قط؟ هل مر بك نَعِيمٌ قَط؟ فيقول: لا، والله يا رب، ويؤتى بِأَشَدِّ الناس بؤسًا في الدُّنْيَا من أهل الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رَأَيْتَ بُؤْسًا قط؟ هل مَرَّ بك شِدَّةٌ قط؟ فيقول: لا، والله يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رأيت شِدَّةً قَطُّ). فحريٌّ بالمسلم أن يعتبرَ بذلك، وأن يعمر وقته بطاعة الله عزَّ وجَلَّ لعلمه أنَّ ما يلحقه من مشقَّة العبادة يزول ويبقى له أجرها، يتنعم به خالداً مخلداً في دار النعيم، وأن يجانبَ المحرَّمات؛ ليقينه أنَّ لذَّتها تزول بزوالها، ويبقى وِزرها عليه، وأن يستفيدَ منَ الأزمان الفاضلة، والأوقات المبارَكة التي اختَصَّها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمها كما عظمها الرَّبُّ تبارك وتعالى ويخصها بكثرة النوافل والقُرُبات، وإنَّ الخسران كلَّ الخسران أن يصرفها العبد في اللهْوِ والغفلة، والتمتُّع بما حرم الله تعالى عليه، ولربَّما كانتْ هذه العشر آخر موسم مبارك يدركه العبد في حياته، فلعلَّ الموت يبغته في أي لحظة؛ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ) … أسأل الله العظيم أن يجعلني وإياكم من الموفقين لاستغلال هذه العشر المباركة في كل عمل صالح يقربنا من رضوان الله ورحمته، ونسأله أن يرزقنا تقواه حتى نلقاه إنه على كل شيء قدير. اللهم تقبل منا صالح الأعمال، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم أدخلنا الجنة مع السابقين المقربين وارزقنا الفردوس الأعلى يا أكرم الأكرمين. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزراءه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم ادفع وارفع عنا الوباء والغلاء والربا والزنا والزلازل والمحن والفتن، وسيء الأسقام والأمراض ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين وبلاد العالم أجمعين يا ذا الجلال والإكرام. اللهم كن للمستضعفين والمظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً. اللهم أحفظ أهلنا في فلسطين وأحفظ مقدسات المسلمين، والمسجد الأقصى، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين.