الجمعة 7 رجب 1442 هـ
المةافق 19 فبراير 2021 م
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس للمتقين نُزُلاً، ويسَّر لهم سُبُلَها فجعلَها للسالِكين منهم ذُلُلاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل لعباده في الجنة من النعيم المُقيم ما لا يبغُون عنه حِوَلاً، ونشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، الداعِي إلى سبيلِ ربِّه قولاً وعملاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه صلاةً وسلاماً نرجُو بها ما هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ أمَلاً.
أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى :(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
معاشر المسلمين: يجهد المرء في دنياه ويسعى، ويكد ويشقى، يجمع ويدخر، ويوفر ويقترض، من أجل أن يؤمِّن لنفسه مسكنًاً، يبذل في سبيل هذا الهدف ماله وصحته، وفكره ووقته، تراه يخطط ويرسم، ويُشيِّد ويصمِّم، من أجل إظهاره على أحسن حال، وأجمل مثال… حتى إذا ما تمَّ بناؤه، بدأ بعد ذلك عناؤه! في اختيار أثاثه، والتنسيق بينه وبين ألوانه، ثم بعد ذلك كله – فإن هذا البيت الذي بُني على عينه حتى كمل مُعرَّضٌ للبِلَى والتغيُّر، والتشقُّق والتصدُّع، وإن سلم البيت من ذلك فلن يسلم صاحبه من آفات الزمان وحوادث الدهر… هذه حال منازل الدنيا، وهذا حال أهلها، فما حال منازل الآخرة؟ كيف هي شأن مساكن الآخرة؟ نحن عباد الله اليوم مع موعد في رحلة إيمانية إلى هناك،وما أدراك ما هناك! حيث مساكن الآخرة، مساكن لا تعتريها العوارض، ولا يغيرها الزمان، باقيةٌ على نظرتها وبهائها، ورونقها وجمالها، دائمة ما دامت السموات والأرض، بيوتٌ لا نَصَب فيها ولا وَصَب، ولا همَّ معها ولا تعب، منازلٌ بناها الذي خلق كل شيء، فأحسن كل شيء خَلَقَه، ثم زينها لأحبابه وأهل رضوانه، فقال عنها: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)… بيتٌ في الجنة: دعوةٌ سألتها المرأة الصالحة التقية امرأة فرعون؛ (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًاً فِي الْجَنَّةِ، ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين).. بيتٌ في الجنة: بشارةٌ زفَّها المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمِّ المؤمنين خديجة رضى الله عنها بأن لها في الجنة بيتاً من قَصَب (قصب اللؤلؤ)، لا صَخَبَ فيه، ولا نَصَب… فيا أخي المسلم ويا أختي المسلمة: أرع لنا سمعك، واستجمع معنا قالبك وقلبك؛ لنحلِّق بأرواحنا إلى هذه المساكن، نقترب من بنيانها، نسمع شيئاً من أخبارها وجمالها، وحسنها وبهائها، وأخبار أهلها الموعودين بدخولها وسكناها والقرار بها، وقبل ذلك كله: كيف نُشيِّد تلك المنازل بأقوالنا وأفعالنا؟…أيها المؤمنون: يا له من مشهد عظيم ومنظر كريم، تتلهف له أرواح وقلوب المؤمنين! قد أزينت الجنة لأهلها، وفتحت من أجلهم أبوابها، وزُمَر المتقين يُزفُّون إليها وفداً وفداً وفداً! أول زُمْرَةٍ يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم كأشد كوكبٍ دريٍّ في السماء إضاءةً، يساقون إلى الجنات على أحسن حالة وأروع هيئة، وجوههم مُسْفِرَة، وأرواحهم مبتهجة مستبشرة، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يتلقون التهاني والتبريكات عند أبواب الجنات: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)
حتى إذا ما دخلوها؛ تبيَّنت لهم الجنة، فرأوا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نور يتلألأ، وريحانة تهتز، أغادير وأنهار، وبساتين وثمار، ظلٌّ ممدود، وهواءٌ عليل، خضرةٌ نضرة، وريحٌ طيبة، وحُلَلٌ كثيرة، ومناظر ومشاهد تأسر الفؤاد وتسحر الألباب… وطئت أقدام أهل الجنة الجنةَ، فإذا ترابها المسك والزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وإذا أرضها قيعان مستوية، لا انعراج فيها ولا ارتفاع، وإذا هي مد البصر، لا يعلم نهايتها إلا الذي خلقها، وإذا في وسطها مباني تلألأت نضارتها، وتألَّقت قسامتها فسبحان مَنْ خَلَقَها وبناها وجمَّلها تلكم هي مساكن أهل الجنة، وإذا من حول تلكم المباني أشجار لا تَسَل عن بهائها ونضارتها، وأنهار لا تَسَل عن عذوبتها وصفائها.. لا يحتاج أهل الجنة إلى مَنْ يعرِّفهم بيوتَهم؛ بل يعرفون بيوتَهم هناك كما يعرفون بيوتَهم هنا؛ قال تعالى: (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) قال أهل التفسير: (يعرفون بيوتهم في الجنة كما تعرفون بيوتكم في الدنيا)…
أيها الأخوة والأخوات في الله: مساكن أهل الجنة في الجنة ليست على درجة واحدة؛ بل فيها القصور، وفيها البيوت، وفيها الخيام، وفيها الغُرَف… يعجز اللسان، ويعجم البيان، ويتيه الخيال أن يدرك حقيقة هذا الرونق والجمال، ولنترك الوصف في هذا المقام لرسول الهدى صلى الله عليه وآله وسلم الذي أُكرم من الله تعالى في دنيا الناس برؤية مساكن أهل الجنة، ليصف لنا شيئاً مما رآه هناك… حدِّثنا يا رسول الله عن الجنة؟ ما بناؤها؟ بهذه الكلمات يسأل الصحابة رضى الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيأتيهم الجواب: الجنَّةُ بناؤُها لبِنةٌ من فضَّةٍ ولبنةٌ من ذَهَبٍ ، وملاطُها (أي الطين الذي يطلى به الحائط) المسكُ الأذفرُ ، وحصباؤُها اللُّؤلؤُ والياقوتُ ، وتُربتُها الزَّعفرانُ مَن دخلَها ينعَمُ ولا يبأسُ ، ويخلدُ ولا يموتُ لا تبلَى ثيابُهُم ، ولا يفنى شَبابُهُم) .. ومن مساكن أهل الجنة: قصورٌ فارهة، مرتفعة شامخة، لا مثيل لها ولا نظير.. ومن مساكن أهل الجنة أيضاً: غرفٌ شفافة، يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، وغرفٌ أخرى فوقها غرفٌ، لا ضجيج حولها ولا صَخَب، وإنما هو صوت المياه العذبة تتدفق في الأنهار، قال تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) غرفٌ فيها الأمن والطمأنينة: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) .. ومع الأمن والأمان تتوافد إليهم التهاني: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً)…
ومن عجيب مساكن أهل الجنة: الخيام الجميلة، لا تَسَل عن جمالها واتساعها وتلألئها، يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهاءها وعظمتها فيقول: (إنَّ للمؤمنِ في الجنةِ لخيمةٌ من لؤلؤةٍ واحدةٍ ، مجوَّفةٍ طولُها ستون ميلًا ، للمؤمن فيها أهلُون ، يطوف عليهم المؤمنُ فلا يرى بعضُهم بعضاً)… هذه الخيام فيهن الحور الحسان: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) ، لا يخرجن من الخيام، ولا يمدّن أعينهن لغير أزواجهن..واعلمن أيتها الأخوات الكريمات: أن الزوجة الصالحة المؤمنة منكن، من أهل الدنيا يكون جمالها في الجنة يفوق جمال الحور العين ! لماذا ؟ لأنها هي التي تعبدت وصامت وقامت لله، وهي التي حاربت الشهوات، وصبرت على الأذى والبلاء فاستحقت من الله أن يكافئها،قال تعالى (إنا أنشأناهُنّ إنشاءً فجعلناهُنّ أبكاراً عُرُباً أتراباً لاِصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ) (يعني الثيبات والأبكار اللواتي كن في الدنيا) والمرأة التي لم تتزوج في الدنيا فإن الله تعالى يزوجها ما تقر بها عينها في الجنة، فالنعيم في الجنة ليس مقصوراً على الذكور وإنما هو للذكور والإناث ومن جملة النعيم: الزواج.قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)..ثم إن المساكن التي أعدت للمؤمنين، فيها الفُرُش الوثيرة،التي بلغت الغاية في الرقة والنعومة قال تعالى: (مُتَّكِـِٔينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍۢ ۚ وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍۢ)، هذه المساكن فيها البساط الناعم الأملس – وهو العبقري – وصف الله جماله وحسنه فقال: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)…
وفي هذه المساكن أيضاً: الوسائد المتألق حسنها، قال تعالى: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ)، هذه المساكن فيها الأواني المرصعة بالذهب: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ)، وأواني أخرى لها بياض الفضة، وصفاء الزجاج: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ، قوارير من فضة قدروها تقديراً) هذه المساكن فيها الخدم والغلمان، في غاية النضارة والبهاء: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)،(إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)…
هذه المساكن أجلكم الله لا يتغوَّط أهلها ولا يتبوَّلون، ولا يمتخَّطون ولا يبزقون، ويخرج الطعام على هيئة رشح وجشاء كرشح المسك من أجسادهم. أمشاطهم الذهب، ورَشْحُهم المِسْك، ومجامرهم الألوة (أي العود والطيب) ، خَلْقهم على خَلْق رجلٍ واحد، على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعاً في السماء، أعمارهم في الثلاثين، عليهم التيجان، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النَّفَس… وفي الجنة عباد الله(حول تلكم المساكن) أنهارٌ وعيونٌ كثيرة، قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) وقال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً،عَيْنًاً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) وقال: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًاً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) وقال: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً)
أما عن أشجارها، ففيها الحدائق والأعناب والنخيل والرمان والفاكهة والسدر المنضود وغيرها.وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب، قال تعالى: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) وقال: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)، وقال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) وقال صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ تبارَك وتعالى يقولُ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولونَ: لبَّيْكَ ربَّنا وسعدَيْكَ والخيرُ في يدَيْكَ فيقولُ هل رضِيتُم؟ فيقولونَ ما لنا لا نرضى وقد أعطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحداً مِن خَلْقِكَ فيقولُ: ألا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلكَ فيقولونَ : يا ربِّ وأيُّ شيءٍ أفضَلُ مِن ذلكَ ؟ فيقولُ : أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ بعدَه أبداً)
تلك – عباد الله – مساكن ونعيم أهل السعادة الأبدية في الجنة، وشيء من أخبارها ووصفها مما جاء في القرآن، وصحَّ عن سيِّد وَلَد عدنان صلى الله عليه وآله وسلم…
فعلينا عباد الله الإيمان والتصديق في هذا وفي غيره من أمور الغيب؛ لأن عقولنا وأفهامنا وإدراكنا أقل من ذلك وأعجز مما نتصوره ونتخيله، فالإيمان والتصديق واجب بكل ما ورد في القرآن الكريم وما صح في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق الذي لا مِرْيَةَ فيه ولا شَكَّ عند أي مؤمن أن الجنة كما ذكر الله عنها وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين) (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُون)… اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها،وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل برحمتك يا أرحم الراحمين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدى الأمة إلى دين الإسلام، نحمده سبحانه يكرِم من يشاء برحمته ويدخلهم الجنة دار السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فيا أيها الأخوة والأخوات،أيها المشتاقون إلى جنة ربكم، لعلكم قد تاقت أنفسكم إلى هذه المنازل المنيفة، وعَلَت همَّتكم لبلوغ تلك القصور المشيدة! فابشروا وأملوا ، فهذه المنازل ما أُعدَّت إلا لكم أنتم، ومفاتيحها يسيرة على مَنْ يسَّرها الله عليه، وذلك بعد رحمة الله الرحيم الرحمن.
يا مَنِ اشتاق لبيوت الجنة وتمنَّاها، هاك أعمالاً وأقوالاً سهلة المنال، فثابر عليها والزمها، وانتظر الوفاء من الله تعالى: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا). فمن الأعمال والأقوال والمعتقدات، الإيمان بالله تعالى وتوحيده، وتصديق المرسلين، وتقوى الله قال تعالى : (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ)… ومن الأعمال والأقوال التي تدخل الجنة، المحافظة على الفرائض والواجبات، واجتناب المعاصي والمحرمات، وكذا المحافظة على السنن الرواتب بعد الصلوات المفروضة، و بناء المساجد في أرض الله، وذكر الله والاستغفار والتحميد والتهليل والتسبيح وتلاوة كتاب الله والصلاة والسلام على رسول الله. ومنها بر الوالدين والإصلاح بين الناس، وإحسان الزوج لزوجه، وطاعة الزوجة لزوجها في المعروف… يا مَنْ فُجِعَ بفَقْد الولد، وأصابته الكآبة والكمد، أَتْبِعْ مُصابك بالحمد والاسترجاع، ثم أبشر بعد ذلك ببيت في الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ماتَ ولَدُ العبْدِ قَالَ اللَّه تَعَالَى لملائِكَتِهِ: (وهو أعلم بذلك) قَبضْتُمْ ولَدَ عبْدِي؟ فيقولُون: نَعمْ، فَيقولُ: قبضتُم ثَمرةَ فُؤَادِهِ؟ فيقولونَ: نَعَمْ، فيقولُ: فَمَاذَا قَالَ عَبْدي؟ فيقولونَ: حمِدكَ واسْتَرْجَع، فَيقُولُ اللَّه تَعالى: ابْنُوا لِعَبْدِي بيْتاً في الجنَّةِ، وسَمُّوهُ بَيْتَ الحمْدِ)… يا من أبتلي بفقد بصره، أبشر بقول الله تعالى في الحديث القدسي الذي يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه قال: إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ (يعني عينيه) فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ)… أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن أيسر الأعمال في تشييد بيوت الجنة: طيب الكلام وإطعام الطعام وإدامة الصيام وصلاة القيام: وقد قال سيد الأنام صلى الله عليه وسلم : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًاً تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ).. ومنها حسن الخلق وترك المراء وترك الكذب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّاً ، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحاً، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه). وغيرها من الأعمال والأقوال الصالحة، المبثوثة في كتب السنة النبوية… وأخيراً عباد الله: هلاَّ سألنا أنفسنا وحاسبناها، كم مضى من أعمارنا ونحن مقصِّرون عن هذه الفضائل؟ كم ألهتنا دنيانا عن تشييد هذه المساكن؟
فيا أخي المقصِّر وكلنا وربي مقصِّر:استدرك ما فات، وجانبْ ما ألْهاك، وشيِّد بأعمالك الصالحة منازلك هناك، مع الأحبة؛ محمد وآله وصحبه. إياك ثم إياك أن تضيع نعيم الآخرة وقصورها وخيامها وحورها بلذة طائشة وشهوة عابرة: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى). اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وبالسعادة آجالنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم داو جراح معاصينا بدواء طاعتك، ونور ظلام قلوبنا بنور هدايتك، أمدنا بروح من عندك، وأعنا على أنفسنا الأمارة بالسوء،حتى تتحول إلى أنفس لوامة، وأنفس مطمئنة راضية مرضية يارب العالمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين…
اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.. اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين… اللهم وفِّق المسئولين والعاملينَ والمتطوعين في فريق البحرين الوطني وأحفظنا وبلادنا وبلاد المسلمين والعالم أجمعين من الأوبئة وسيئ الأسقام والأمراض، ولا تؤاخذنا بذنوبنا وتقصيرنا، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا البلاء والوباء، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألُك العفوَ والعَافيةَ في دينِنا ودنيانا وأهلِنا وأموالِنا، اللهم استر عوراتِنا وآمن روعاتِنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيمانِنا وعن شمائلِنا ومن فوقِنا ونعوذُ بعظمتِك أن نغتالَ من تحتِنا.
اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا وأغث قلوبنا بالإيمان والتقوى، وبلادنا بالأمطار والخيرات يارب العالمين.
اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم والدينا، وارحم موتانا، وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين