خطبة حجة الوداع وتربية الأمة
عدنان بن عبد الله القطان
6 ذو الحجة 1442هـ – 19 يوليو 2021 م
—————————————————————————–
الحمد لله الذي تفرّد بكلّ كمال، واختصّ بأبهى جمال وأعلى جلال، وتفضّل على عباده بجزيل النوال، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، المنزه عن الأشباه والأنداد والأمثال، ونشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، اتقوا الله واعلموا رحمكم الله أنه في مثل هذه الأيام المباركة من أيام الحج، وقف نبيكم صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه خطيباً في حجة الوداع، فتكلم في خطبة عظيمة عن الكثير من الأمور التي تهم المسلم والمسلمة في دينه ودنياه وآخرته، فكانت هذه التعاليم بمثابة خطة العمل، ودستور الحياة لأمته، لتستأنف الحياة من جديد من بعده، والتي تضمن لها الحياة الطيبة، والراحة النفسية، والتمكين في الأرض، كيف لا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص على المسلمين والمؤمنين من أنفسهم وكان يخاف عليهم بعد أن يودع هذه الحياة وينتقل إلى ربه من الوقوع فيما حذر منه، يقول سبحانه وتعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) وقد أجيبت دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين هتف وهو يبني البيت العتيق:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لهذه الأمة، ورحمةً للعالمين. فما أحوجنا عباد الله في المحن والشدائد والابتلاءات، وفي الرخاء وعند نزول الفتن والمصيبات، وفي اليسر والعسر إلى توجيهات هذا الرسول العظيم والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، لتستقيم الحياة، ويسعد الإنسان، ويعم الخير على المجتمع … وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يخطب وقد تجمع حوله في ذلك الزمان مائة ألف أو يزيدون في صعيدٍ واحد، يسمعون هذه التوجيهات، ومن المعجزات التي حصلت: أن الخطبة سمعها جميع من كان في الحج بدون مكبر صوت، فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: (خطبَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونَحنُ بمنًى فَفُتِحَتْ أسماعُنا حتَّى كنَّا نسمَعُ ما يقولُ ونحنُ في مَنازلِنا) فكان مما قاله: أيُّها الناسُ اسْمَعُوا قَوْلِي فإني لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بعدَ يومِي هذا في هذا المَوْقِفِ ، أيُّها الناسُ، إِنَّ دِماءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ وأَعْراضَكُمْ حرامٌ إلى يومِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يومِكُمْ هذا في شهرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، وإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عن أَعْمالِكُمْ، وقَدِ بَلَّغْتُ ، فمَنْ كان عندَهُ أَمانَةٌ فَلْيُؤَدِّها إلى مَنِ ائْتَمَنَهُ عليْها وإِنَّ كلَّ رِباً مَوْضُوعٌ ولَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللهُ أنْ لا رباً، وإِنَّ رِبا عَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كلُّهُ، أيُّها الناسُ: إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ بِأرضِكُمْ ولَكِنَّهُ إنْ يطعَ فيما سِوَى ذلكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ من أَعْمالِكُمْ فقد رضيَ بهِ فَاحْذَرُوهُ على دِينِكُمْ، أيُّها الناسُ: إِنَّ الزَّمانَ قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِه يومَ خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ، وإِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللهِ اثْنا عشرَ شهراً مِنْها أربعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلاثٌ مُتَوَالِياتٌ ورَجَبُ الذي بين جُمادَى وشَعْبانَ. ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يوصي بحسن معاملة النساء وحسن معاشرتهن بالمعروف وعدم غمط شيئٍ من حقوقهن، وأوصى بهن خيراً… وقال صلى الله عليه وسلم: أَلاَ وَإِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ وَأُكَاثِرُ بِكُمُ الأُمَمَ، فَلاَ تُسَوِّدُوا وَجْهِي أَلاَ وَإِنِّي مُسْتَنْقِذٌ أُنَاساً وَمُسْتَنْقَذٌ مِنِّي أُنَاسٌ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي . فَيَقُولُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) وفي رواية بلفظ: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض… أيها الأخوة والأخوات في الله: ما أعظم هذه المبادئ التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته فكان أول ما تكلم به حرمة الدماء والأعراض والأموال وخطورة أن يكون فعل المسلم أو عمله أو قوله سبباً لسفك دم إنسان من أي بلاد أو جنس أو لون بدون حق … والله تعالى قد حذر من ذلك فقال:(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).. وجعل سبحانه وتعالى التعدي على حياة هذا الإنسان من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم والذنوب التي تورد صاحبها المهالك في الدنيا والآخرة .. يقول صلى الله عليه وسلم: 🙁 لَا يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَاماً). وقال ابن عمر رضي الله عنهما (إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ) ويقول عليه الصلاة والسلام: كل ذنب عسى اللـه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً بل جعل سبحانه وتعالى قتل المسلم وسفك دمه من عظائم الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام:( قتل المؤمن أعظم عند اللـه من زوال الدنيا) و قال تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) وما نراه اليوم ونسمعه ونشاهده في بعض المجتمعات المسلمة، من جرأة الناس على الدماء المعصومة بسبب الخلافات والصراعات بين الأفراد والمجتمعات والدول، لينذر بالخطر الداهم على سلامة وأمن المجتمعات والأمم والدول، وهو سبب لذهاب البركة والرزق والراحة وطمأنينة النفس وهو سبب لنزول سخط الله ومقته وعذابه في الدنيا والآخرة. ألا فلنتق الله ولنحذر سخطه وعقوبته بحفظ دمائنا وأعراضنا وأموالنا.
أيها المؤمنون والمؤمنات: ثم تحدث صلى الله عليه وسلم عن الربا وتحريمه وخطورته على الأفراد والأمة، فقال: (وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بن عبد الْمُطَّلِبِ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) والله تعالى لم يحرم الربا إلا لعظيم ضرره وكثرة مفاسده، فهو يفسد ضمير الفرد، يفسد حياة الإنسانية، يشيع الطمع والشره والأنانية، يميت روح الجماعة، يسبب العداوة، يزرع الأحقاد في النفوس، ولهذا أعلن الله تعالى الحرب على أصحابه ومروجيه، يقول الله عز وجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)
حرب في الدنيا: غلاء في الأسعار، أزمات مالية، أمراض نفسية، انعدمت معاني التعاون والإيثار، أما في الآخرة فعذاب أليم يقول الله تعالى: (ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرّبَوٰاْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ) ويعتبر النظام الربوي مسئولاً عن كثير من الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية على مستوى الأفراد والجماعات والدول.
أيها المسلمون: لقد ظهر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع مدى حرصه ورحمته وشفقته بأمته رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً حكاماً ومحكومين، وكان يخاف أن يبدلوا أو يغيروا شيئاً من دينه أو يتركوا شيئاً من شريعته فيسقطوا من عين الله ولا يستطيع بعد ذلك أن يدافع عنهم عند الله أو يشفع لهم فخاطبهم بقوله (ألا وإنِّي فرطُكُم علَى الحوضِ، وأُكاثرُ بِكُمُ الأممَ، فلا تسوِّدوا وجهي..) يا لله ما أعظمها من كلمة .. يا لله ما أشدها من كلمة، ماذا نقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أعمالنا تشهد علينا بالتقصير والتفريط في عبادتنا وسلوكنا ومعاملاتنا، وتخيلوا الموقف العجيب والمنظر الرهيب والرسول صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى حوضه الشريفة لنشرب منها وإذا بالملائكة تدفع أناساً وتمنعهم فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا رب! أصيحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) لاتدري ما أحدثوا بعدك، تركوا الدين وغرتهم الدنيا، وتركوا الطاعات والعبادات، وانشغلوا بالشهوات والملذات، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ورضوا بالسكوت ومداهنة الباطل إيثاراً للسلامة الزائفة، وقصروا في واجباتهم الدينية والدنيوية، فأصبحوا عالة على أمم الأرض بعد أن كانوا سادة الأمم وأساتذة الحضارة .. وتركوا الكثير من أوامر الشرع واستبدلوها بإتباع الهوى وطاعة الشيطان وإتباع خطواته وتزيينه للباطل والحرام والمنكر في كل شؤون حياتهم، فقال صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَداً، وَلَكِنَّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ)
أيها الأخوة والأخوات في الله: وفي خطبة الوداع، أوصى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرجال بالنساء خيراً فقال: (اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله) فقد جعل النبيّ عليه الصلاة والسلام للنساء حظّاً وافراً من الاهتمام والعناية التي تجلّت في كلماته في خُطبة الوداع؛ فقد أوصى بهنّ الرجال خيراً، ودعا إلى الإحسان إليهنّ في المعاملة، وإعطائهنّ حقوقهنّ كاملةً دون مَنٍّ، أو أذىً، والإنفاق عليهنّ، وكسوتهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف حيث قال: (واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْراً)، وبذلك فإنّ للمرأة مكانتها الرفيعة؛ إكراماً، وعنايةً، وتقديراً لها على صنيعها. فقد كانت المرأة تهز المهد بيمينها وتهز العالم بشمالها عندما تنشئ قادة وعلماء ومفكرين وأبطالاً ميامين تفخر بهم الأمة… وفي أواخر خطبة الوداع يقول صلى الله عليه وسلم: (وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ (أبداً) كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وسنتي) فالذي خلق الإنسان أعلم بما يصلحه ويحقق سعادته، ألا وهو الاعتصام بالكتاب والسنة؛ ففيهما العصمة من الخطأ، والأمن من الضلال، والحيدة عنهما فشل وتفرق وتخلف، ألم تسمعوا قول الله تعالى: (وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)
عباد الله: خطبة الوداع نداء يوجه إلى الأمة الإسلامية، بمناسبة الحج لتحقق الأمة المراجعة المطلوبة، والاستقامة على الطريق المستقيم، والاستجابة لنداء سيد المرسلين، فهل تستجيب الأمة، وهل تفعل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل…
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ونشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله واعلموا رحمكم الله، أننا لا نزال في أيام عشر ذي الحجة الفاضلة، التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بأن العمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل في غيرها، وقد مضى جل هذه الأيام، فمن كان فيها محسناً؛ فليزدد من الإحسان، وليسأل الله القبول، ومن كان فيها مقصراً ومفرطاً؛ فليتدارك ما بقي منها.
أيها الأخوة والأخوات في الله: يوم الاثنين القادم هو يوم عرفة، وهو يوم من أعظم أيام الله عز وجل، تغفر فيه الزلاّت، وتجاب فيه الدعوات، ويباهي الله بعباده أهل السماوات.
ويوم عرفة يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين؛ ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قالَ له: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لو عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيداً. قالَ: أيُّ آيَةٍ؟ قالَ: (اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا) قالَ عُمَرُ: قدْ عَرَفْنَا ذلكَ اليَومَ، والمَكانَ الذي نَزَلَتْ فيه علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو قَائِمٌ بعَرَفَةَ يَومَ جُمُعَةٍ.. وهو من مفاخر المسلمين وأعيادهم، ولذا قال عنه صلى الله عليه وسلم:(يومُ عرفةَ ويومُ النَّحرِ، وأيَّامُ التَّشريقِ عيدُنا أهلَ الإسلامِ وهي أيَّامُ أكلٍ وشربٍ)
وهو يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، فما أجلّه من يوم، وما أعظمه من موقف؛ قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السماءِ ، فيقولُ : انْظُروا إلى عِبَادِي أتوْنِي شُعْثاً غُبراً ضَاحِينَ مِنْ كُلِّ فَج عَمِيقٍ، أشهِدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) وفضل يوم عرفة الذي يستقبله المسلمون، ليس خاصًّاً بأهل الموقف في عرفة، بل إن فضله يشمل عباد الله في أرجاء الدنيا، والله ذو الفضل العظيم.
ومن لم يحج فإنه يشرع له صيام يوم عرفة، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صيام يوم عرفة أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ)
ثم نستقبل بعدها ياعباد الله يوم النحر ( عيد الأضحى) الذي هو أعظم الأيام عند الله تعالى، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وأقسم به في كتابه الكريم؛ قال تعالى: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) وَسَمَّاْهُ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَاْلَ تَعَاْلىَ: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بها، وقال: (هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ) وفي هذا اليوم العظيم يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم؛ إتباعاً لسنة الخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فالأضاحي عباد الله شعيرة عظيمة، وسنة قويمة؛ لمن قدر عليها، وقد ورد الفضل العظيم لمن أداها. وينبغي للمسلم أن يختار الأكمل من الأضاحي في جميع صفاتها، وأن تكون من مال طيب؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.. وكذلك عباد الله يشرع في هذه الأيام المباركة التكبير المطلق طوال أيام العشر، وأيام التشريق وهي الأيام الثلاثة بعد عيد الأضحى، والتكبير المقيد، ويكون بعد الصلوات المفروضة في أيام التشريق الثلاثة بعد العيد، ويستمر إلى آخر يوم من أيام التشريق قبل غروب شمسه، ثم يقطع. فيكبر المسلمون بعد الصلاة ويرفعون أصواتهم به، وصفته أن يقول المصلي: (اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَاْ إِلَهَ إَلَّا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ) فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله وأجره في هذه الأيام المباركة، فاستكثروا من الطاعات والأعمال الصالحات، وسلوا الله القبول والتمام…
نسأل اللهَ الكريمَ المعينَ أنْ يمنَّ علينَا وعليكم بالإعانةِ على كلِّ عملٍ صالحٍ يُرضيهِ عنَّا، وأن يغفرَ لنا ولكم ولوالدِينَا ووالدِيكم وجميعِ المسلمينَ الأحياءِ منهم والميتين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واستعملنا فيما تحب وترضى ظاهراً وباطناً، يا ذا الجلال والإكرام. اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أصلح بطانتهم ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير… اللهم وفِّق المسئولين في فريق البحرين الوطني ورجال جيشنا وأمننا، وصحتنا وإعلامنا وجميع المتطوعين، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفاه، على ما قدموا للبلاد والعباد، يا ذا الجلال والإكرام…اللهم اكشف عنا الوباء، اللهم أنت الشافي، والكافي، والمعافي، اشف مرضانا، ومرضى المسلمين والعالمين، من (كورونا) وغيرها من الأوبئة والأسقام، يا ذا الجلال والإكرام… اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وأهل فلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، والمصلين فيه واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم موتانا، برحمتك يا أرحم الراحمين. الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين