عدنان بن عبد الله القطان
26 شوال 1443 هـ – 27 مايو 2022 م
—————————————————————————
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، الرحمن الرَّحيم؛ زرَع الرحمة في قلوب الأمَّهات على أولادهنَّ، وجعَل فقدَهم أعظمَ مُصابِهنَّ، ورَزَقهنَّ الصبرَ على حملهِم وولادتِهم ورَضاعهم وحَضانتهم، فلا يَصبِر على ذلك كلِّه غيرُهُنَّ، نحْمَده على هِدايته وكفايته، ونشْكُره على فضْله ورِعايته، ونسأله الثباتَ على الحقِّ إلى الممات، ونشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له؛ حرَّم الظلمَ على نفْسه، وجعَلَه محرَّماً بين عباده، ورفَع دعوة المظلوم، فليس بينها وبيْن الله حِجاب، ووعَد بالانتصار لها ولو بعدَ حِين، ونشهد أنَّ نبينا محمداً عبدُه ورسوله؛ حرَّج على أمَّته حقَّ الضعيفين: المرأة واليتيم؛ لضعفِهما عن استيفاء حقوقِهما، وعجزِهما عنِ الانتصار ممَّن يظلمهما، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتْباعه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى، اَتقوا الله وأطِيعوه، واحْذروا الظلمَ؛ فإنَّه ظلماتٌ يومَ القيامة، وإذا كان مِن قريبٍ فهو أشدُّ جُرْماً، وأعظم إثماً، وأنْكى جرحاً؛ لأنَّه ظلمٌ وقطيعة، وقطيعةُ الرحِم من كبائر الذنوب؛ وصدق الله حيث يقول (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)
معاشر المسلمين: اتَّصفَ الله تعالى بالرحمة، وأمَر عبادَه بها، ووعَد الرُّحماءَ منهم برحمته، جاء ذلك في أحاديثَ صحيحةٍ كثيرة، منها: قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم (وإنَّما يَرحَمُ اللهُ من عِبادِه الرُّحَماءَ)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (مَن لا يَرحَم لا يُرحَم)، وفي رواية: (لا يَرحَمُ الله مَن لا يَرحَمُ الناس)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلا من شَقِيٍّ). وكلَّما كان المخلوقُ أضعْفَ كان بالرحمةِ أوْلى؛ لأنَّ القويَّ ينتزع حقَّه بقوَّتِه، والولَدُ (ذكراً كان أو أنثى) سببٌ في ضَعْف الوالدين، يُورثهما البُخلَ والجُبن؛ لحنوِّ قلبهما عليه، ومبالغتِهما في مُراعاةِ مصلحته، وقدْ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ الولدَ مَبخلةٌ مَجبنةٌ) ومعنى قوله، (مبخلة) أي أن الولد: سبب للبخل بالمال، و(مجبنة) أي أن الولد: سبب لجبن الأب، فإنه يتقاعد ويتقاعس ويتخاذل عن الجهاد في سبيل الله بسبب حب الأولاد والخوف من الموت عنهم وتركهم بلا راع ولا ولي.. والأمُّ أضْعَفُ الوالدَيْن، وأكثرهما رحمةً بالولَد؛ لمَا جبَلها الله تعالى عليه مِن العَطْف والرِّقة، والرحمة والحنان؛ ولأنَّ ولدَها مضغةٌ منها، خرَج من بطنِها، ورَضع لَبَنها، ونام في حجْرِها، ووجَد حنانها ودِفْأَها، ولا يَفهم الولدَ وطباعَه حقَّ الفهم إلا أمُّه، ولو كانت أُميَّةً لا تقرأ ولا تكتب، ويَكفي دليلاً على رحمة الأم بولدها أنَّ الرضيع إذا جاعَ دَرَّ لبنُ أمِّه ولو كان بعيداً عنها…!. إنَّ تعلُّقَ الأمِّ بولدِها، ورحمتَها به، وحنوَّها عليه، والسعيَ في رعاية مصلحته، فِطرةٌ فطَر الله تعالى عليها المخلوقاتِ من بشَرٍ وحيوان، ووحْش وطير وحشرات؛ ليُحفظَ النَّسْل، ويَبقى الخَلْق إلى ما شاء الله تعالى ولولا ما غرَسَه الله تعالى في قلْب الأمِّ من الرحمة والمحبَّة والحنان على ولدِها لقتلتْه مِن شدَّة ما تجد من ألَم حمْله، ومخاضِه وولادته، وما تُعانيه من جوعٍ وتعَب؛ لأجْلِ رَضاعته والقيامِ عليه، إنَّها حِكمة الحكيم العليم، ورحمةٌ من رحماتِ أرحمِ الراحمين.
عباد الله: وأشدُّ شيءٍ على الأمِّ أن يُحال بينها وبين ولدها بشَراً كانتْ أم غيرَ بشَر فالناقة لا تَعقِل لكنَّها تبكي وترزُم وتحن إذا حِيل بينها وبين فَصِيلها فإذا ذُبِح أمامها ولِهَتْ عليه، فهزُلتْ ولربَّما ماتتْ مِن شدَّة وجْدِها عليه. والطير تنتفض وتفرِش بجناحيها إذا فقدَتْ صغيرَها، كما ورد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً ( نوع من الطيور) مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا) وفي إثباتِ رحمة الله تعالى، ضرَب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأمثالَ عليها برحمة الأمِّ لولدها؛ ممَّا يدلُّ على أنَّه لا أرحمَ في الخَلْق من قلْب الأم، يقول الفاروق عُمَرُ بن الخَطَّابِ رضي الله عنه: قَدِمَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَسْعَى، إِذْ وَجَدتْ صَبياً في السبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْزَقَتْهُ بِبَطْنِها، فَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: أَتُرَوْنَ هَذِهِ المَرْأَةَ طارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ. فَقَالَ:(للَّهُ أَرْحمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِولَدِهَا) وقال رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ للهِ مائةَ رحمَةٍ، أَنْزَلَ منها رَحْمَةً واحدَةً بين الجِنِّ وَالإِنسِ والبَهائِمِ والهَوامِّ فبِها يتَعاطَفونَ وبِها يَتَراحَمونَ، وبها تَعْطِفُ الوَحشُ على ولَدِها)، وفي رواية: (حتى تَرْفَعَ الفَرَسُ حافِرَها عن ولَدِها؛ خَشْيَةَ أنْ تُصِيبَه) والشَّريعة الربانيَّة قد جاءتْ بما يوائِم الفِطرة، فأَغلقتْ كلَّ طريق يُحال فيه بين الولد وأمِّه؛ رحمةً بهما، فالولد يحتاج إلى حضانةِ أمِّه، والأمُّ يتمزَّق قلبُها إنْ حِيل بينها وبين ولدِها، فإذا قدَّر الله تعالى فِراقًاً أو طلاقاً بين الزوجين، كانتِ الأمُّ أحقَّ بحضانة الأطفال، وإنما كانتِ الحضانة للأمِّ لأنَّها أقربُ وأشفق، ولا يُشاركها في قُرْبها إلا الأب، وليس له شفقتُها، وهو لا يلي الحضانة بنفسه… هذا حقٌّ لها ما لم تتزوَّج؛ لأنَّها إذا تزوجت شُغِلت بالزوج عن حضانته، وأَمْرُها بيد زوجِها لا بيدها، وقد يُؤذي زوجُها ولدَها ولا تستطيع منعَه، والشَّرْع الحكيم كما راعَى مصلحةَ الجمْع بين الأم ووليدها، راعى كذلك مصلحةَ الطفل إذا تزوَّجتْ أمُّه وشُغِلت عنه.
عباد الله: والأصل في ذلك: حديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه رضي الله عنهم: أنَّ امرَأةً قالت: يا رَسولَ الله، إنَّ ابْنِي هذا كان بَطْنِي له وِعاءً، وثَدْيِي له سِقاءً، وحِجْرِي له حِواءً، وإنَّ أباهُ طَلَّقَنِي وأرادَ أَنْ يَنْتَزِعَه منِّي، فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: (أنْتِ أحَقُّ به ما لم تَنْكِحِي) أي تتزوجي… ولمَّا خاصَم الفاروق عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه امرأتَه أمَّ عاصم في ابنِه منها إلى أبي بكر رضي الله عنه قضَى أبو بكر بالولدِ لأمِّه، وقال: (رِيحها وشَمُّها ولُطفُها خيرٌ له منك). قال ابنُ عبد البر المالكي رحمه الله تعالى: (لا أعلم خِلافًاً بين السلف من العلماءِ في المرأةِ المطلَّقة إذا لم تتزوَّجْ أنها أحقُّ بولدها مِن أبيه، ما دام طفلاً صغيراً لا يميِّز شيئاً).
أيها المؤمنون والمؤمنات: وهذا الحُكْم المُحكَم في الجمْع بين الأمِّ وولدها كان حاضراً في تقعيدِ العلماء للقواعد، فذكروا تَقَدُّمَ النساء على الرِّجال في الحضانة؛ لأنهنَّ أعرفُ بالتربية وأشفقُ على الأطفال، وقرَّروا تَقَدُّمَ الأمِّ الجاهِلة بأحكامِ الحضانة على العَمَّة العالِمة بأحكامها؛ لأنَّ طبْع الأمِّ يحثُّها على معرفةِ مصالح الطفل، وعلى القيام بها، وحثُّ الطبع أقْوى من حثِّ الشرع… وفي تحذيرِ العُلَماء من التحايل على الحُكمِ لإسقاطه يُمثِّلون بسفَر الأبِ عن بلد الأمِّ لإسقاط حقِّها في الحضانة، ويُبطلون حيلتَه في ذلك، قال أهل العلم:(ومِن الحيل الباطِلة المحرَّمة ما لو أراد الأبُ إسقاطَ حضانة الأمِّ أنْ يُسافِر إلى غيرِ بلدها فيتبعه الولَد، وهذه الحِيلةُ مناقضةٌ لمَا قصَده الشارع، فإنه جعَل الأمَّ أحقَّ بالولد مِن الأب مع قُرْب الدار وإمكان اللِّقاء كلَّ وقتٍ لو قَضَى به للأب وقَضَى ألاَّ تُوَلَّه والدةٌ على ولدها، فكيف يجوز مع هذا التحيُّل على التفريق بينها وبيْن ولدها تفريقًاً تعزُّ معه رؤيتُه ولقاؤه، ويعزُّ عليها الصَّبْر عنه وفقْدُه؟!، ثم بيَّنوا رحمهم الله تعالى: (أنَّ الوَلدَ للأُمِّ: سافَرَ الْأَبُ أو أقامَ، ما لم تتزوَّج). كل هذه الأحكام التي تَرِدُ في أبوابِ الحضانة والحِيل والقضاء وغيرها مِن كُتب الفقه غايتُها الجمْعُ بين الأم وولدها ما أمكن ذلك ومَنْع ما يؤدِّي إلى تفرُّقهما.
أيها المسلمون والمسلمات: وقد عَمِل صلاحُ الدين الأيوبي رحمه الله تعالى في بعضِ مغازيه بما قرَّرتْه الشريعة الإسلامية من جمْع الأمِّ بولدها؛ فقد سبَى المسلمون صَبِيَّةً من الصليبيِّين،( معاملة بالمثل كما يفعل الأعداء بالمسلمات) بِيعت في السوق، فذهبتْ أمُّها إلى ملوكِ النصارى تستنجد بهم وتَبكي، فأشاروا عليها أن تَذهبَ لصلاحِ الدِّين الأيوبي وأخبروها أنه رقيقُ القلْب، فخرجَتْ إلى عسكرِ المسلمين تطلب صلاحَ الدين، وهي شديدةُ التخوُّف، كثيرة البكاء، متواتِرة الدقِّ على صدرِها، حتى أُتِي بها لصلاحِ الدِّين الأيوبي فشَكَتْ فقدانَ ابنتها، وقالت: لا أعرِفُ ابنتي إلاَّ مِنك، فَرَقَّ لها صلاحُ الدين، وعطف عليها ودمعتْ عينُه، وحرَّكه دِينُه ومروءتُه، فأمَر مَن يبحَث عمَّن اشتَراها فيشتريها منه؛ قال القاضي ابنُ شدَّاد رحمه الله تعالى: (فما مضَتْ ساعةٌ حتى وصَل الفارسُ والصغيرة على كَتِفه، فما كان إلا أنْ وقَع نظرُ أمِّها عليها فخرَّتْ إلى الأرض تُعَفِّر وجهَها في التراب، والناس يبكون على ما نالها وهِي ترفع طَرْفَها إلى السماء ولا نَعْلَم ما تقول، فسُلِّمتِ ابنتُها إليها وحُمِلَتْ حتى أعيدتْ إلى عسْكَر الصليبيِّين). أيها المطلقون والمطلقات: كذلك لا يجوز للمطلقة أن تحرم مطلقها من حقه في زيارة أولاده وبناته، ورؤيتهم والجلوس معهم، والجلوس مع والديه وأهله، أو أخذهم معه للمبيت في بيته إذا لم يكونوا صغاراً، فهذه المسألة مبنية على التفاهم والتراضي بين الطرفين، فالأم قد يدفعها غضبها وكرهها للمطلق أن تمنع حقوقه على أبنائه، والله عز وجل قد نهانا عن ذلك وأمرنا بإعطاء الحقوق كاملة غير منقوصة، فقال في مواضع كثيرة (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). فلا بد أن يكون بين الطرفين من التفاهم والتراحم والمرونة والتراضي، وليست المسألة مسألة شد وجذب أيهما يثبت ذاته، فقد يكون هذا على حساب الأطفال ويؤثر ذلك في نفسيتهم على المدى البعيد، فيفسد حالهم ويصبحون معقدين نفسياً من جراء هذه المهاترات بين الأم والأب، وعليه فإن لم يكن هناك مرونة كافية، ومراعاة للفضل بين المطلقين، كما قال الله تعالى (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فالذي ينظم ذلك هو القضاء، والمحاكم.
فتأمَّلوا رحمكم الله تعالى العدلَ والرحمةَ في الشريعة الربَّانية، وموافقتَها لما فُطِرتْ عليه قلوبُ الآباء والأمهات مِن محبَّة ومودة الأولاد والبنات؛ لنعلمَ أنَّها شريعةُ عدلٍ ورحمة، لو أخَذ الناس بها، ولم يَحْتالوا على أحكامها ليُسقطوها… فما أرْحَمَ اللهَ تعالى بعبادِه حين شرَع الشرائع لهم، وألْزَمهم بها! ولو وكَلَهم إلى أنفسِهم لضلُّوا وأَضَلُّوا، وظَلَمُوا وظُلِمُوا،
فالحمدُ لله الذي هَدانا لشريعتِه، ونسأله سبحانه أن يُعيننا على الاستسلامِ لها والعملِ بها، والدعوةِ إليها؛ يقول تعالى: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) ويقول سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
نسأل الله تعالى أن يصلح أسر وآصرة وقرابة المسلمين، وأحوال الأزواج والزوجات والمطلقين والمطلقات، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح شأنهم كله، ويبارك لهم في أولادهم وبناتهم وذرياتهم، إنه سميع الدعاء.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عالم السر والنجوى، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؛ نحمده تعالى ونشكره، ونتوب إليه، ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: تقوم الأُسْرة في الإسلامِ على المودَّة والرَّحْمة، فإذا عُدِمت المودَّة والمَيل القلبي، فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان، وإذا حدث خلاف بيت الزوجين، وطلقت المرأة فلا يَحِلُّ لأيٍّ مِن المطلقين أو ذويهما أن يُضمِرَ الانتقامَ والإضرار بالآخر وإلا كان ذلك غيرَ إحسان.. إنَّ أكبرَ ضحية للطلاق هم الأولاد، وإذا كانَ الطلاقُ عن نِزاع – وهو الأغلب – عاش الأطفالُ ذلك النِّزاعَ بين أبويهم بفصُولِه، واكْتَووا بنارِه، وتأثَّرت نفسيَّاتُهم بسببه فيحتارون إلى مَن يَصيرون، ومع مَن يكونون؟ وهاجِس المستقبل بعدَ الطلاق يُؤرِّقهم، ولا سيَّما حين يَقْتسمهم الوالِدان… إنَّ أعظمَ جريمةٍ تُرتكب في حقِّ الأولاد وأمِّهم بعدَ طلاقِها أن يُتَّخذوا سلاحاً لإضعافها والانتقام منها، فيَنتزع الأبُ أو ذووه أولادَها منها بالقوَّة، ويحبسهم عن أمِّهم؛ لتصفيةِ حِساباتٍ سابِقة، أو لإثباتِ أنَّه أقوى، أو لغيرِ ذلك، فيُحرق قلْبَ أطفاله على أمِّهم لإطفاءِ نِيران قلْبه المشتعِل بالضغائنِ والأحقاد، نعوذ بالله تعالى مِن قلوبٍ لا تعرِف الرحمة.. كذلك لا يجوز للأم أن تحرم أو تمنع طليقها من رؤية أولاده أو زيارتهم انتقاماً منه وكرهاً له.
عباد الله: إنَّ الشريعةَ الإسلامية قد حرَّمتْ منْعَ الأمِّ مِن أولادها، وحبْسَهم عنها لأيِّ سبب كان، فإنْ كانوا في فترةِ الحضانة فهي أولى بهم مِن أبيهم إلاَّ أن تتزوَّج، فإنْ تزوَّجت وانتَقلتْ حضانتُهم لغيرها، لم يُمنعوا منها، ولا يَحِلُّ الانتقام منها؛ لأنَّها تزوَّجت، بل يُمكَّنون مِن زيارتها والجلوسِ معها بيْن حينٍ وآخَر، ويجب على الزوج (الأب) أنْ يُعينهم على بِرِّ أمِّهم ولو كانتْ طليقتَه، ولا يُؤلِّبهم عليها، أو يُشوِّه صورتَها في أذهانهم، فإنَّ ذلك كلَّه يُنافي الفراقَ بإحسان، ويعود بالسَّلبِ على أولاده، فإمَّا أن يكرهوه لكثرةِ كلامه في أمِّهم، وإمَّا أن يكرهوا أمَّهم، وفي كِلتا الحالتين لن يكونَ ذلك خيراً له ولا لهم. إنَّ على الآباء والأمَّهات أنْ يَسْعَوا بعدَ طلاقهم فيما يعود بالصلاحِ والخير والنفع، على أولادهم، وإنَّ عليهم أن يَعْلَموا أنهم حين يستخدمون أولادَهم سِلاحاً للانتقام مِن الآخر، فإنَّهم يَنتقِمون مِن أولادهم.
عباد الله: إنَّ الله تعالى حين أباح الطلاقَ خلاصاً مِن زواج سُدِّت فيه طرقُ الرحمة والمودَّة والاستقرار؛ أتْبَع ذلك بأحكامٍ تَحْفَظ الأولادَ من الضياع وحرَّم على الآباء والأمهات أن يجعلوهم ورقةَ ضغط وابتزاز للأخر… فليتَّقِ اللهَ تعالى كلُّ مُطلِّق أن يَظلمَ طليقتَه وولدَه بحِرمانها من أولادها لمالٍ يرجوه، أو لإسقاطِ نفقتهم عنه وهم أولادُه، أو لغيرِ ذلك مِن الأغراض الدنيئة التي يعفُّ عنها كِرامُ الرجال، ولا يَنتحلها إلا الأراذلُ مِنهم.. وليتَّقِ اللهَ أهل المُطلِّق أن يُعينوه على ظُلمِه في حِرْمان ولدِه من أمِّهم، بل الواجب عليهم أن يُنكِروا عليه فعْلَه وأن يُنصِفوا ولدَه وطليقتَه مِن ظُلْمه وبغْيه… وعلى الناس إنْ رأوا باغياً على طليقتِه وولدِه يَحْرمهم مِن بعْض، أن يُنكِروا ذلك عليه، وينصحوه ويَعِظوه بالدين، ويَسْعوا بكلِّ الوسائل الممكِنة للجمْع بين الأم وأولادها، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّه لا قُدِّسَتْ أُمَّة لا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فيها حَقَّهُ غيرَ مُتَعْتَعٍ، أي غير متردد) وأيُّ حقٍّ لمخلوقٍ أعظم مِن حقِّ أمٍّ في رؤية ولدِها، وتقبيله ومعانقته والجلوسِ معه، والاستئناس به، فكيف يُمْنَع هو منها، وتُمنع هي منه؟
نسأل الله تعالى أن يصلح أسر المسلمين، وأحوال الأزواج والزوجات، والمطلقين والمطلقات ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح شأنهم كله، ويبارك لهم في أولادهم وذرياتهم.
اللهم اجعل بينهم من المودة والرحمة أفضلها، ومن الصبر والرأفة أكملها، ومن الشكر والطاعة أعمها. وأهدهم لما فيه الخير والصلاح يارب العالمين.. اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه أجمع بين المطلقين والمطلقات، وردهم إلى بعضهم وأصلح أحوالهم، وألف بين قلوبهم، وانشر السعادة والخير والصلاح والتدين في بيوتهم.
اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلهم من الراشدين..
اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم آمنَّا في وطننا، وفي خليجنا، ووفق ولاة أمورنا، وأيِّد بالحق ملكنا حمد بن عيسى ووليَّ عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، وهيِّئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، ووفِّقهم لما تحب وترضى، وإلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع والمآب.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.. اللهم انصر عبادك المستضعفين المظلومين في كل مكان وكن لهم ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا..
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين