أهمية الرفق والتيسير في حياة المسلمين
عدنان بن عبد الله القطان
22 شوال 1444هـ – 12 مايو 2023 م
————————————————————————–
الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيء خُبراً، وأسبل على خلقه بلطفه رحمةً وسِتراً، وبعث رسوله وكمَّل وصفَه ليناً ورِفْقاً وبِرَّاً، نحمدُه سبحانه ونشكره، ونستعين به ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل كتابه بالحق والهدى، والنور والضياء؛ رحمة وشفاء لما في الصدور، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بعثه بالرفق واللين والتيسير في جميع الأمور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا يتميّز في إنسانيته عن غيره، إلا بقلبه وروحه، لا بأكوام لحمه وعظامه، فبالقلب والروح، يعيش الإنسان ويشعر وينفعل ويتأثّر ويرحم ويتألّم، بل ويكون من الأحياء.
وإن من أبرز مظاهر تميّز الإنسان وسموّ أحاسيسه، اتصافه بالرفق واللين والشفقة، فالرفق واللين، صورتان من صور كمال الفطرة، وجمال الخُلُق التي تحمل صاحبها على البر والتقوى، يقول أهل العلم: (الرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق). الرفق تحكُّمٌ في هوى النفس ورغباتها، وحَملٌ لها على الصبرِ والتحمُّل والتجمُّل، وكفٌّ لها عن العنف والتعجُّل، وكظمٌ عظيمٌ لما قد يلقَاه الإنسان من تطاوُل في قولٍ أو فعل أو تعامل.. الرفق حفظكم الله لين الجانب، ولطافةُ الفعل، والأخذُ بالأيسر والأسهل، وأخذٌ للأمور بأحسن وجوهها وأيسرِ مسالكها.
هو رأس الحِكمة، ودليل كمالِ العقل وقوّة الشخصية، والقدرةِ القادرة على ضبطِ التصرّفات والإرادات، واعتدال النظر ومظهرٌ عجيبٌ من مظاهر الرشد، بل هو ثمرةٌ كبرى من ثمار التديُّن الصحيح.
فيه سلامةُ العِرض، وصفاءُ الصدر، وراحةُ البدن، واستجلاب الفوائِد وجميلِ العوائد، ووسيلةُ التواصل والتوادّ وبلوغِ المراد. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في تعامله وخلقه؛ يقول صلى الله عليه وسلمَ: (الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كَالْجَمَلِ الأَنِفِ، حيثما قِيدَ انْقَادَ) يعني سهل القياد لا يخالف قائده.
أيّها المسلمون والمسلمات: الرفق في الأمور كلها من شأنه أن يُصلح ويعطي أفضل النتائج، بخلاف العنف والشدة، فمِن شأنه أن يفسد ويعطي أسوأ النتائج، فمن أعطي الرفق فقد أعطي خيراً كثيراً، ومن حرم من الرفق، فقد فقدَ خيراً كثيراً..
الرفق يلين سَورَة عناد المعاندين، ويقهر عريكة ذوي الطغيان، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لَيعطِي على الرِّفقِ ما لا يعطي على الْخَرَق -أي الْحُمقِ-، وإذا أحبَّ الله عبداً أعطاهُ الرفق، وما كانَ أهلُ بيتٍ يُحرَمونَ الرفق إلا حُرِمُوا الخيرَ كلَّه)..
وحسْب المسلم أن يعلم أن الرفق من صفات الله تعالى العليا، التي أحبها لعباده في الأمور كلها؛ يقول صلى الله عليه وسلم لزوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ). فربّنا عزَّ شأنه رفيق بخلقِه، رءوف بعباده، كريم في عفوه، رفيقٌ في أمره ونهيه، لا يأخذ عبادَه بالتكاليف الشاقّة، ولا يكلفهم بما ليس لهم به طاقة؛ يقول سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ويقول تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) ويقول جل وعلا: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) ويقول تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ويقول تبارك اسمه، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
أيها المؤمنون: والرفق خلق نبوي كريم، حث عليه النبي صلى الله عليه وسلمَ، وبين فضله وقيمته، يقول صلى الله عليه وسلمَ: (مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ). فإياكم عباد الله والعنف والشدة، فإنه يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، ويفرق ولا يجمع. فمِن الناس مَن امتلأ قلبه قسوة وشدة، يَعَنّف، ويدمر، ويخرب، ويسعى في الأرض بالفساد، عنيف في قوله، عنيف في فعله، عنيف في أخذه وعطائه: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) يظنّ هذا الغافل أن الرفقَ ذِلّة، والرحمة ضعفًاً، والأناة كسَلاً، والمداراة نفاقًاً، واللطفَ غَفلة.. ويظنّ الفظاظة رجولة وحزماً، والقساوة قوة، والتشدّد تمسّكًاً والتزاماً، وهل هذا إلا انقلاب في المفاهيم، وسوء في الفهم، وغَلط في الإدراك؟!
إياكم عباد الله والعنف، بأذيّة الآخرين أو بتخويفهم وترويعهم؛ فإن أذيّة المسلم حرام، وتخويفه وترويعه حرام، يقول صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِماً) ويَقُولُ: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ) وعليكم عباد الله بالرفق، فإن النفس البشرية تميل إلى الرفق، ولين الجانب، وطيب الكلام، وتأنس به، وتنفر من الغلظة والفظاظة والخشونة والعنف… ورسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ هو المثلُ الأعلى والأسوةُ الأولى في أفعالِه وأقوالِه ومعاملاتِه رِقّةً وحُبًّاً وعطفاً ورِفقًاً؛ فلقد امتنّ ربنا جلّ وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلمَ بأن جَبَله على الرفق ومحبة الرفق، وبأن جنّبه الغلظة، والفظاظة، فقال عز وجل: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ولقد كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلةً بهذا الخلق الكريم، ومن ذلك رفقه بزوجاته وبالنساء عموماً، فقد وقف صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في أعظم تجمّع إيماني خطيباً، ليستعرض ركائز الدين، وأهمّ قضايا الإسلام، فكانت الوصية بالمرأة حاضرة في تلك الخطبة الهامّة، حيث قال فيها: (… اتَّقُوا اللهَ في النِّساء، فإنكم أخذتموهُنَّ بأمان الله، واستَحْلَلْتُم فُروجَهُنَّ بكلمةِ الله..)
وقال صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي) وجاء الأمر من الله تعالى بحُسْنِ عِشْرةِ الزوجات، والرفق بهن فقال سبحانه: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وحُسْن العِشْرة للزوجة يعني: أداءَ حقِّها من مهر ونفقة، والتلطُّفَ معها، وإلانةَ القول لها، والصبرَ عليها، والإغضاءَ عن خطئها، والصفحَ عما يقع منها. وقال صلى الله عليه وسلم قال: (واستَوْصُوا بالنِّساء خيراً..)
وفي هذا حث على الرِّفق بالنساء، واحتمالِهنّ. فقد سألت أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها: ما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصنعُ في بيته؟ قالت: كان يكونُ في مِهْنة أهله- تعني خِدمةَ أهله- فإذا حضرت الصَّلاةُ خرجَ إلى الصَّلاة.
عباد الله: ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم، رفقه بالأطفال وبأبناء المسلمين، فقد روي عنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضى الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِى فَيُقْعِدُنِى عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الأُخْرَى ثُمَّ يَضُمُّهُمَا ثُمَّ يَقُولُ:(اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّى أَرْحَمُهُمَا). وكان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم، ويحنكهم، ويدعو لهم، وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم، ويمسح على رؤوسهم وكان دائماً يقبل الحسن والحسين ويلاعبهما، وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة رفقاً بها.
ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم رفقه بالأمهات حتى في الصلاة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ) ما أعظم هذه الرحمة! وما أجلّ هذه الشفقة! ولله درّ القائل فيه صلى الله عليه وسلم:
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ
هذان في الدنيا هما الرحماءُ
أيها المؤمنون: ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم رفقه بالجاهل، فقد صح أن أَعْرَابِيًّاً بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ: (دَعُوهُ، لا تُزْرِمُوه (أي لا تقطعوا عليه بوله) وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًاً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ). وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه برفق ولم يعنفه، وقال له: (إِنّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا اِلْبَوْلِ وَالْقَذَرِ، إِنّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله -عَزّ وَجَلّ- وَالصّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ).
أيها الأخوة والأخوات في الله: ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم رفقه بالخدم، فقد قال خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: (خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ). وعنه رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ)، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، (فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) وتقاضى رجل رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ في بعير كان له عليه، فَأَغْلَظَ لَهُ القول، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لهم: (دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالًاً وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيراً فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ) وَقَالُوا: لاَ نَجِدُ إِلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ: (اشْتَرُوهُ، فَأَعْطُوهُ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً).عباد الله: ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين رفقه في أمور الدين، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لاَ أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاَةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَباً مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحَاجَةِ) فاللهم اجعلنا من عبادك الصالحين؛ أهل الرفق واللين والخير والمعروف والإحسان برحمتك يا أرحم الراحمين.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها المسلمون: اعلموا رحمكم الله، أن من أعظم صور الرفق: الرفق بالأهل والأسرة من الآباء والأمهات، والأطفال والزوجات، أيها الأبناء أيتها البنات: أرفقوا بآبائكم وأمهاتكم، أحسنوا الصحبة معهم ولينوا في المعاملة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).. أيها الآباء، أيتها الأمهات: أرفقوا بأبنائكم وبناتكم؛ فربكم يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وإذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَمْ يَكُنْ الرِّفْقَ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ)
عباد الله: ترفقوا بالخدم والعمال، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، وأحسنوا معاملتهم ومخاطبتهم وأعطوهم أجرهم طيبة بها نفوسكم في مواعيدها، ولا تماطلوا في البذل والعطاء، وأطعموهم مما تطعمون.
أيها المعلمون، أيها الدعاة، أيها المسئولون: أرفقوا وترفقوا؛ فالرفق والإحسان أسرع قبولاً وأسرع أثراً وفي عموم الولايات والمسئوليات يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أمرِ أمتي شيئاً فَرَفَقَ بهم فارْفق به، ومَنْ وَلِيَ من أمرِ أمتي شيئاً فشقَّ عليهِم فاشقُقْ عليه) عباد الله: المسلم يكون على قدر عال من الأخلاق الحسنة، والتعامل الرفيق، والمسلك الراقي، حين يكون متسامحاً، وحين يتجنب المشاحة وغلظ المشاكسة، يمهل المعسر، ويتجاوز عن المسيء (ورحِمَ الله أمرأً سمحاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضَى وإذا اقْتضَى) إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً، كيف وقد بلغ التوجيه إلى الرفق في ديننا، حتى نال الحيوان الأعجم البهيم، حظه من الرفق، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَمَرَّ بِبَعِيرٍ مُنَاخٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ -أَيْ: مِنْ الْجُوع- ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ؟! فَابْتُغِيَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ -أي التي لا تستطيع أن تعبر عما في بطنها من جوع أو عطش- فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَرِيقِ اشْتَدَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْراً فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمّ خَرَجَ، فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثْ يَأْكُلُ الثّرىَ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الّذِي كَانَ بَلَغَ مِنّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَهُ مَاءً، ثُمّ أَمْسَكَهُ بِفيهِ حَتّىَ رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ). كما توعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار وسوء العاقبة لامرأة، (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ، سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها وسَقَتْها، إذْ هي حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ) وبشر صلى الله عليه وسلم، امرأة بغِيٍّ بالجنة، لأنها سقت كلباً كان يأكل الثرى من العطش. نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن يتحلون بالرفق واللين والشفقة في تعاملهم، اللهم زين قلوبنا بالرفق واللين، وارزقنا السكينة والوئام، وأنزل السعادة على قلوبنا وبيوتنا إنك أنت المنعم الوهاب.
أيها المسلمون والمسلمات: انطلاقاً من قول النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يَشكرُ اللهَ مَن لا يَشكرُ النَّاسَ)، فإنَّنا نرفع من هذا المنبر المبارك أسمى آيات الشُّكر والتَّقدير لحضرة صاحب الجلالة الملك المعظَّم حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين حفظه الله ورعاه وصاحب السُّمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله ورعاه بشأن التَّوجيهات السَّامية السَّديدة الصَّادرة للجهات التعليمية بالوقف الفوري لأيّ تغييرات تطال المناهج التعليميَّة غير المتوافقة مع قيمنا الوطنيَّة في حماية الدِّين، وكذلك ما أكَّده سموّ ولي العهد رئيس مجلس الوزراء من أنَّ ثوابتنا غير قابلة للمساس بها، وأنَّ احترامها وحمايتها واجب الجميع.
وهذا والله ليس بالأمر الغريب على ولاة أمرنا جزاهم الله تعالى خير الجزاء، بل يدلُّ على حرصهم ومحافظتهم على الثوابت والقيم الوطنية والدينية، واهتمامهم الكبير المباشر بما فيه مصلحة البلاد والعباد كما عهدناهم دائماً.
ونعبِّر هنا عن خالص ولائنا لقيادتنا الرَّشيدة، داعين لها بموفور الصِّحة والسَّلامة والعافية، وأن يصرف عنها كلَّ سوء ومكروه، ويبقيها دوماً حصناً منيعاً للدِّين والقِيَم والوطن. كما نسأله سبحانه أن يحفظ البحرين، ويجعلها عزيزة شامخة بدينها وثوابتها ومبادئها...اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، اللهم أيد بالحق ولي أمرنا ملكنا حمد بن عيسى وارفع قدره، ويسر أمره، وأعل شأنه، وبارك له في أولاده وذريته، وأجري الخير على يديه، اللهم ومتعه وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم متعهم جميعاً بالصحة والعافية وطول العمر، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وسدد على طريق الخير خطاهم، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة، والجنود والمستشارين الصادقين المخلصين يا رب العالمين..
اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، وأهدنا سبل السلام، وأهدنا إلى صراطك المستقيم، اللهم وحد كلمتنا وصفوفنا، وأحفظ علينا مودتنا وأخوتنا، وطهر قلوبنا من الحقد والحسد والبغضاء، وجنبنا الخلاف والنزاع والشقاق والخصام، ياذا الجلال والإكرام.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.
اللهم أحفظ بلادنا وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر عبادك المستضعفين في كل مكان. اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ إخواننا في السودان واحقن دمائهم وولي عليهم خيارهم، اللهم أحفظ المسجد الأقصى مسرى نبيك وحصنه بتحصينك وأكلاه برعايتك، واجعله في حرزك وأمانك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين