فضائل مكة المكرمة ووصايا للحجاج
فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان
23 ذو القعدة 1445هـ – 31 مايو 2024 م
الحمد لله الذي شرف مكة على سائر الأوطان، وجعل فيها الكعبة والمشاعر العظام، وخصها بحرمتها إلى يوم القيامة، يوم يقوم الناس للرحمن، نحمده سبحانه، ونسأله أن يرزقنا فيها الأدب والعمل الصالح الذي يرضيه عنا يوم الزحام، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
معاشر المسلمين: تَفرّد اللهُ تعالى بالخلقِ والتدبيرِ والاصطِفاء، واختيارُه دالٌّ على ربوبيَّته تعالى ووحدانيتِه، وكمالِ حكمتِه وعلمِه وقُدرتِه، وقد فاضَل سبحانه بين الأمكِنة والذواتِ والأعمالِ والشهورِ والليالِي والأيام: فخيرُ الخلقِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأفضلُ الأعمالِ توحيدُ الله عز وجل وإفرادُه بالعبادة، وأشرفُ الشهورِ شهرُ رمضان، وأعزُّ الليالي ليلةُ القدر، وأفضلُ الأيامِ يومُ النَّحر، وخيرُ البِقاعِ عندَ اللهِ وأحبُّها إليه مكَّة المكرمة، قال صلى الله عليه وسلم: واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خَرجتُ) هي أمُّ القُرى، وما سِواهَا تبعٌ لها، أقسَم الله بها إشارةً لعظَمَتِها فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) ومع القَسَمِ سمّاها البلدَ الأمين، فقالَ: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)
مسجِدُها أشرفُ المساجِد، وهو أولُ بيتٍ وُضع في الأرضِ مُباركاً وهدايةً للناس، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وضعَ في الأرضِ أولَ؟ قال: المسجدُ الحرامُ ، قلتُ: ثم أيُّ ؟ قال: المسجدُ الأقصى..)
هدَى الله إبراهيمَ عليه السلام لبناءِ البيتِ فيها، (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) فرفَعَه مع ابنه إسماعيل، ودعا الخليلُ بمحبَّةِ قلوبِ الناسِ لمكةَ، وفرحهِم بالقُدُومِ إليها، فقال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) اختارَها الله لأكرمِ رُسُلِه، ففيها وُلد نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها نشَأ ومنها بُعِث، وبدأَ نُزُولُ الوحي والقرآن عليهِ فيها، وعاشَ عليه الصلاة والسلام فيها أكثرَ من خمسين عاماً، ومنها انطلَقت الدعوة الإسلامية، وفيها نشأَ خيرُ رجالٍ وهم آل النبي وأصحابه رضي عنهم، بعد الأنبياء عليهم السلام، ومنها أُسرِيَ به عليه الصلاة والسلام إلى المسجدِ الأقصى.
أحبَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبّاً جَمًّاً وأُخرِجَ منها مُكرَهاً، ولما نَزلَ المدينةِ كان يدعو ويقول: (اللهمَّ حَبِّبْ إلينَا المدينةَ كما حَبَّبتَ مكةَ أو أَشَدَّ).. بلدٌ آمِنٌ دعا إبراهيمُ عليه السلام له بالأمنِ فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً) فامتَنَّ الله بذلك وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)، والداخِلُ إلى مسجدِها يشعُرُ بأمنِها، قال سبحانه: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) حرَّمها الله تعالى منذ خلق السمواتِ والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ حرَّم مكةَ يومَ خلق السمواتِ والأرضَ، فهي حرامٌ بحرام اللهِ عز وجل إلى يومِ القيامةِ)
وأظهرَ إبراهيمُ عليه السلامُ للخلقِ حُرمَتَها، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ إِبراهيمَ حرَّم مكّةَ) وكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم مُعظِّماً لها، قال يومَ الحديبية: والذي نفسي بيدِه؛ لا يسألُوني خُطَّةً يُعظِّمُون فيها حُرُمات الله إلا أعطيتُهم إياها) من حُرمَتها: أن سَفكَ الدم فيها بغير حقٍّ أشدُّ حُرمةً من غيرها، قال صلى الله عليه وسلم: لا يحِلُّ لأمرئ يُؤمِنُ بالله واليوم الآخرِ أن يسفِكَ بها دماً) ولا يُخافُ أو يخوف أهلُها بحملِ سلاحٍ فيها، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يَحِلُّ لِأَحَدِكُم أنْ يَحْمِلَ بِمكةَ السلاحَ) والحيواناتُ آمنةٌ بأمان الله في العَرَاء، والطيورُ سابِحةٌ في الفَضاء، وأشجارهُا تُرفرِفُ بالأمنِ فلا تُقطَع، والأمْوالُ المفقودةُ لا تُلتقَطُ كسائرِ البُلدان، قال صلى الله عليه وسلم لا يُختَلى خَلاها ولا يُعضَدُ شجرُها، ولا يُنَفَّرُ صيدُها ولا تُلتَقَطُ لُقَطَتُها إلا لمُعَرِّفٍ) شبّه صلى الله عليه وسلم حُرمةَ الأموالِ والأعراضِ والدماءِ بحُرمَتها، لعلوِّ منزلَتِها عند الله، فقال: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا) ومن همّ بسوءٍ فيها عذَّبَه الله، قال سبحانه: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) قال عبد الله ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لو أنَّ رجُلاً همَّ فيه بإلحادٍ وهو بعَدَن أبيَنَ، لأذاقَه الله عذاباً أليماً).. والظالمُ فيها أبغَضُ الناسِ عند الله، يقول صلى الله عليه وسلم: أبغضُ الناس إلى اللهِ مُلحِدٌ في الحرمِ ولعظيم حُرمَتها لا يطَأُ أرضَها مُشرِكٌ، قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) والدجالُ في آخر الزمان، كافرٌ بالله يفتِنُ الناسَ في دينِهم، فيمنَعُهُ الله عز وجل من دخولِ مكَّةَ والمدينة، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلدٍ إلا سيطؤُه الدَّجَّالُ، إلا مكةَ والمدينةَ)
أيها المسلمون: حفِظَ اللهُ مكةَ، وستبقَى محفوظةً بحفظِ الله، ومن أرادَها بسُوءٍ أهلكَهُ الله، فأصحابُ الفيلِ أرادُوها بشرٍّ، فحبَسَهم الله عنها، وجعَلَهم عبرةً إلى يومِ الدين، قال صلى الله عليه وسلم: (ويغزُو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببَيْدَاء من الأرض -أي: صحراء- يخسِفُ الله بأولهم وآخرهم) وكما أحلَّ الله فيها الأمنَ، تكرَّمَ على أهلِها بالخيراتِ والثِّمار، مع أنها وادٍ بين جبَلَين غيرُ ذي زَرعٍ، والجبالُ مُحيطةٌ بها من كلِ جانبٍ، وأرضُها مظِنَّةٌ للمجاعة، فدعَا إبراهيمُ لأهلها أن يُرزَقُوا من الثَّمرات كما رزَقَ الله البُلدانَ ذوات الماء والزُّرُوع، فقال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) فأجابَه الله تعالى وقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا) بل ودعَا إبراهيمُ ربَّه بالبركةِ في صاعِها ومُدَّها – أي: في شرابِها وطعامِها- وكان من دُعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعَلْ بالمدينةِ ضِعفَي ما جعَلْتَ بمكةَ من البرَكةِ). وسقَى أهلَها ماءً لا يُوجدُ في الأرضِ مِثلُه، ويتمنَّى الناسُ قطَرَاتٍ منه؛ فماءُ زمزمَ مباركٌ وهو طعام، وشراب، وهو شفاءٌ من جميعِ الأسقام بإذن الله، قال عليه الصلاة والسلام: (زَمزَمَ طعامُ طُعمٍ، وشِفاءُ سُقْمٍ) وحُلُولُ الرزقِ فيها والأمنِ مُوجِبانِ لعبادةِ اللهِ وحده، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) والله يدفعُ السوءَ عن أهلِها بسبب تعظيمِهم البيتَ وتوحيد الله، قال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ) ومكّةُ بلدةٌ مباركةٌ وخيرُها عَميم، ومن بركاتِها مُضاعفةُ الصلاةِ فيها، فصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ من مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ) والطوافُ بالبيت عبادةٌ لا يُمنع عنه أحدٌ أيَّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهار قال سبحانه: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
مشاعِرُها مناسِكُ للمسلمين، فرَضَ الله عليهم قصدَها وجعَلَه أحدَ أركانِ الإسلام، وإلى مسجدِها يُثابُ المسافرُ إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تُشَدُّ الرحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجد: المسجدِ الحرامِ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجدِ الأقصى) وليس في الأرضِ بقعةٌ يُطافُ حوله شرعها الله، سِوَى البيت الحرام، وليس في الدنيا موضعٌ يُشرع تقبيلُه واستلامُه غيرُ الحَجَر الأسود من الكعبة، والرُّكنُ اليمانِيُّ منها يُستلَم.
جعلَ الله البيتَ الحرام فيها مثابةً للناسِ وأمناً، فإليه يفِدُ الخلقُ على تعاقُبِ الأعوامِ من كلِّ فجٍّ عميقٍ تشتَاقُ له الأرواحُ، وتحِنُّ إليه النفُوس، وإن زارُوه زادَ شوقُهم إليه. قصَدَه الأنبياء فحجَّ موسى ويونُسُ ومحمدٌ عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم كأني أنظرُ إلى موسى هابِطاً من الثنيَّةِ وله جُؤارٌ إلى اللهِ بالتلبيةِ، وكأنِّي أنظرُ إلى يُونسَ بن متَّى عليه السَّلامُ على ناقةٍ حمراءَ وهو يلبِّي). شرَّفَ الله البيتَ الحرام فأضافَه إلى نفسهِ، وجعَلَه منارةً للتوحيدِ، وأمَرَ بتطهيرِه مما يُضادُّ ذلك من الأصنام وعبادةِ الأوثان، فقال: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وجعَلَ قصدَه مُكفِّراً لما سَلَفَ من الخطايا والذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن حجَّ هذا البيتَ، فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ رجَع كما ولَدَتْه أمُّه) ولم يرضَ الله لقاصِدِه ثواباً دونَ الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارَةٌ لمَا بينَهمَا، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنَّةُ) وهو قِبلةُ أهلِ الأرضِ جميعاً، يتوجَّهُ كلُّ مسلمٍ إلى جِهتِه كل يومٍ مراراً، قال سبحانه (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ومن ماتَ من المسلمين وُجِّه قبرهُ إليه.
عَظَّم الله سبحانه حُرمَة مكة، فلا تُستقبَلُ جهةُ البيتِ الحرامِ حالَ البولِ أو الغائِطِ، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تستقبِلُوا القبلةَ بغائطٍ أو بولٍ، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)
وإليه يُساق الهديُ والقرابين، قال تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
وفي البيتِ آياتٌ بيِّناتٌ أنه من بناء إبراهيم، منها مقامُه عليه السلام وأمرَنا الله أنْ نتَّخِذَ منه مُصلَّى، وفي بيتِ اللهِ الحرامِ الحجرُ الأسودُ: قيل أنه: (نزَلَ من الجنة أشدُّ بياضاً من اللبنِ فسوَّدَته خطايا بني آدم) وهو حجرٌ لا ينفَعُ ولا يضُرُّ، وإنما يُقبَّلُ امتِثالاً للسُنَّة النبوية، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم… وفي المسجدِ الحرام الصفا والمروةُ، وهما من شعائِرِ الله، وواجِبٌ تعظيمُهما والسعيُ بينهما.
وبعدُ أيها المؤمنون: فبَيتُ الله إنما أُسِّسَ لعبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له، وهو من مواطِن التوبةِ والرجوعِ إلى الله، فعلى العبدِ أن يقصِدَ المسجدَ الحرام وهو خاضِعٌ ذليلٌ لله للتقرُّبِ إليه سبحانه وحطِّ الأوزَار، وواجِبٌ على العبادِ تعظيمَ بيتِ الله، فتعظيمُ ما عظَّمه الله من التقوَى، وبذلك صلاحُ المسلمين في دينِهم ودنياهم.
اللهم زد بيتك الحرام تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه وعظمة ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وبراً، بفضلك وكرمك يا سميع الدعاء.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل بيته مثابةً للناس وأمْناً؛ نحمده سبحانه له الصفاتُ العلا والأسماءُ الحسنى، ونشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ونشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيا أيها المسلمون والمسلمات: هذه بعض الوصايا لمن كتب الله له الحج في هذا العام، وأراد أن يكون حجه مقبولاً، وذنبه مغفوراً وسعيه مشكوراً بإذن الله تعالى، فعليه أن يتقي الله تعالى في فِعْلِ أوامره واجتنابِ نواهيه، وعليه أن يقصدَ بحَجِّه وعمرته وجهَ الله تعالى؛ وأن يخلصَ نيتَه لله رب العالمين، ويحذرَ كلَّ الحذر أن يقصدَ بحَجِّه متاعاً من متاعِ الدنيا الزائل؛ أو أن يريد بحجِّه الرياءَ والسمعةَ، يقول سبحانه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصاً وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ). فالإخلاص والنية الصادقة شرط لنجاح العبادة وقبولها..
كما يجب على العبد أن يتخذ لحجه نفقة من حلال، فلا ينبغي أن يكون المال الذي يحج به الحاج مالاً حراماً أصله سحت، فالنفقة الحلال شرط للحج المبرور. عباد الله: وعلى المسلمِ والمسلمة -وهو ماضٍ إلى الحج- أن يتوبَ إلى الله تعالى مما اقترفه من الذنوب؛ ويقبلَ على الله بقلبٍ صادقٍ منيبٍ؛ يرجو رحمةَ الله تعالى ويخافُ عقابه، والواجب عليه -لتصحَّ توبتُه- الإقلاعُ عن الذنوب، والندمُ عليها، والعزمُ على أنْ لا يعود إليها، كما يجب عليه أن يخرج من مظالمِ الخلق، وأن يتحلل من الناس قبل سفره، وإن كان عنده للناس مظالمُ من نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ ردَّها إليهم.
أيها المؤمنون والمؤمنات: وعلى المسلم والمسلمة في هذا السفر المبارك، أن يصاحب الأخيار من أهلِ التقوى والصلاح؛ حتى يعينوه على طاعةِ الله والتزودِ من أعمال البر، وليحذرْ من مصاحبةِ السفهاء الذين لا يعينون على طاعة، بل يَغْمِسون صاحبَهم في الآثام أو المزاحِ الذي يقسّي القلوبَ أو يقودُ إلى الألفاظ الفاحشة. كما ينبغي للمسلم والمسلمة الحرصُ على تعلُّمِ الأحكام الشرعيةِ؛ المتعلقة بعبادته، سواءٌ بأخذه لمجموعةٍ من المؤلفات التي توضح له ما أشكل عليه في أمورِ عبادته، أم بسؤالهِ لأهل العلم فيما أشكل عليه… وينبغي للحاج أيضاً أن يتخلّق بالخلق الحسن أثناء حجه، وأن يتحلى بالصبر والحلم والعفو والأناة، وهذه الأمور من أهم الأسباب في الفوز بالحج المبرور، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) كما أنه يجب على كل مسلم ومسلمة قصدا البيت الحرام ،أن يسهما في المحافظة على أمن الحرمين الشريفين، من أجل الطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود، وليحذرا كل الحذر أن يهما فيه بسوء وأذى لإخوانهم المسلمين، أو رفع للشعارات ونشر الفوضى، فقد توعد الله عز وجل من يفعل ذلك بالعذاب الأليم، فقال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)..
ولا يفوتنا أن نتقدم بالشكر والتقدير والامتنان لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده وحكومته الرشيدة، على ما يقومون به من تطوير وتوسعة ومشاريع جليلة للحرمين الشريفين، وما يقدمونه من خدمات وتسهيلات من أجل ضيوف الرحمن، وتوفير أقصى درجات الراحة والأمن والأمان لهم ليؤدوا مناسكهم بكل يسر وسهولة، ونسأل الله تعالى أن يحفظهم ويبارك في جهودهم ويسدد على طريق الخير خطاهم، ويجعل هذه الجهود المباركة في ميزان حسناتهم يوم القيامة… اللهم أحفظ الحجاج والمعتمرين في برك وبحرك وجوك واجعل حجهم مقبولاً وذنبهم مغفوراً وسعيهم مشكوراً، وردهم إلى أهلهم سالمين غانمين… اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم حقق للمبتلين من عبادك المظلومين في فلسطين وفي كل مكان، حقق لهم خيراً وصلاحاً تنفرج به الكروب، وتحقن به الدماء، وتحفظ معه الأعراض، ويستتب فيه الأمن، وتبسط فيه الأرزاق، وتعلو فيه راية الحق، والعدل، والإيمان، والإسلام. اللهم أصلح أحوالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلاً..
اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وارحم والدينا وذوي الحقوق علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)