خطبة الجمعة.. حجية السنة وجهود العلماء في حفظها

حجية السنة وجهود العلماء في حفظها

فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان

22 ذو الحجة 1445 هـ – 28 يونيو 2024 م

 

الحمد لله الولي الحميد، العلي المجيد؛ خلق الخلق فابتلاهم، ودلهم على دينه وهداهم، فمنهم من هدي فكان من المفلحين، ومنهم من أعرض فكان من الخاسرين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وإله الأولين والآخرين، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله؛ المبعوث رحمة للعالمين، وهداية للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينه، واعتصموا بحبله، وخذوا بكتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن الخير والله كل الخير في الثبات على الدين، والعمل بالكتاب المبين، والأخذ بسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)… معاشر المسلمين: حين ابتلى الله تعالى عباده بدينه فألزمهم به؛ جعل سبحانه من بلائه لهم أن ينقله رسله عليهم السلام إليهم، ولم يقذف دينه في قلوب عباده؛ ليكونوا كلهم مؤمنين مستسلمين. ولو شاء سبحانه لفعل ذلك، كما خلق سبحانه الملائكة طائعين مستسلمين: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وقد نصب سبحانه البراهين والأدلة على صدق الرسل فيما بلغوا؛ ليميز الناس بين الرسول الصادق وبين الدعي المتنبئ الكاذب. ثم جعل سبحانه طاعة الرسول من طاعته؛ لأن الرسول مبلغ عنه، فمن آمن بصدق الرسول فلا بد أن يطيعه وإلا لم يكن مؤمناً، ومن آمن بالرسول فلا بد أن يأخذ كل ما جاء عنه، فإن قبل بعضه وأعرض عن بعض لم يكن مؤمناً. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلغ عن ربه سبحانه دينه، وكان بلاغه بالقرآن الكريم والسنة النبوية، والسنة تشمل قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوب الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ مما يقطع الطريق على المعترضين عليها، المشككين فيها، فمن رد السنة النبوية الصحيحة رد القرآن ولا بد، ومن شكك فيها شكك في القرآن ولا بد؛ لأن القرآن الكريم أحال عليها في آيات كثيرة جداً، وهي على أنواع: فآيات تدل  على أن السنة الصحيحة وحي من الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)  وذلك أن ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون وحياً من الله تعالى، وإما أن يكون اجتهاداً من النبي صلى الله عليه وسلم أقره الله تعالى عليه فصار وحياً. فإذا لم يقره الله تعالى عليه نزل الوحي بتصحيحه كما في أسرى بدر، ومغفرة ذنوب الشهيد إلا ما عليه من الدين، كما سار جبريل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما ذلك في الحديث، وآيات أخرى تأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ولا يمكن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا باتباع سنته الشريفة الصحيحة، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: (فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم). وآيات أخرى تأمر بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) ولا يمكن التأسي به صلى الله عليه وسلم إلا بالأخذ بسنته كلها.. وآيات أخرى فيها امتنان من الله تعالى بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الكتاب والحكمة: والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، ولم يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن والسنة: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) وَفِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) وَآيَاتٌ أخرى تَأْمُرُ بِتَحْكِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيِّ خِلَافٍ، وَالصُّدُورِ عَنْ قَوْلِهِ، وَالتَّسْلِيمِ بِحُكْمِهِ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أَيْ: فَرُدُّوهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فَلَا خِيَارَ لِلْمُؤْمِنِ إِزَاءَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْقَبُولُ وَالْإِذْعَانُ، وَإِلَّا كَانَ الزَّيْغُ وَالضَّلَالُ.

وَآيَاتٌ أخرى تَأْمُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ: وَمَا بَيَّنَهُ مِنَ القُرْآنِ فَهُوَ مِنْ سُنَّتِهِ (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) كل هذه الآيات البينات الواضحات الكثيرات تدل على أنه لا إيمان بالقرآن إلا باتباع السنة الصحيحة، وإلا لعطلت هذه الآيات الكثيرة. ومن علامات النبوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي على أمته الزائغين المضلين الذين يدعون الأخذ بالقرآن دون السنة، وحذر أمته منهم؛ لأن حقيقتهم أنهم معطلون للقرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ)، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ، أَلَا وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ وَعَظْتُ، وَأَمَرْتُ، وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ، أَوْ أَكْثَرُ) أيها المسلمون: من تناقض أهل الأهواء والمشككين الذين ينتقدون السنة النبوية أنهم يأخذون من السنة ما يهوون، ويتركون منها ما لا يهوون، ولو أنهم طردوا أصلهم في عدم قبولها كلها لما عرفوا كيف يصلون ولا يزكون ولا يصومون ولا يحجون، ولعجزوا عن أداء ما افترض الله تعالى عليهم من الحقوق والواجبات، وتفصيل العبادات؛ لأن ذلك كله إنما أخذ من السنة النبوية، وليس في القرآن تفصيلات له، وقد رد الصحابي الجليل عمران بن الحصين رضي الله عنه على رجل يريد الاكتفاء بالقرآن دون السنة فقال له: (إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ، أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لَا تَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ؟! ثُمَّ عَدَّدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَنَحْوَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَجِدُ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفَسَّرًا؟ إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْهَمَ هَذَا، وَإِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ، وتوضحه)

وإذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب الأخذ به، والتسليم والإذعان والانقياد، ولا يرد بما يزعمه بعض المفتونين عقلاً أو ذوقاً أو غيره؛ لأن العقول والأذواق تتفاوت وتختلف، فلا ترد بها السنن.. والنصوص الصحيحة قد تأتي بما تحار فيه العقول، وهذا في القرآن أيضاً، فهل يردون شيئاً من القرآن لأن عقولهم حارت فيه ولم تفهمه؟ ولكن النصوص الصحيحة لا تأتي بما هو مستحيل؛ لأن مصدر الوحي والخلق واحد، وهو الله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)  وقد يرد نص من النصوص على العقل فيحتار فيه مدة، ثم يقع أمامه ما يصححه له فتزول حيرته كما وقع لأبي إسحاق إبراهيم بن سيار رحمه الله قال يحكي قصة حيرته: بلغني وأنا حدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من فم السقاء وهي (القربة) وعلة النهي أن الإنسان إذا شرب منها مباشرة قد يستقذره غيره، ويؤدي إلى تغير رائحة فم السقاء؛ فإن إدامة الشرب هكذا مما يغير ريحها، وقيل: إن النهي عن الشرب منه مباشرة؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في السقاء ما يؤذيه فيدخل في جوفه ولا يدري. قال الراوي: فكنت أقول: إن لهذا الحديث لشأناً، وما في الشرب من فم القربة حتى يجيء فيه هذا النهي؟ فلما قيل له: إن رجلاً شرب من فم قربة فوكعته (لدغته) حية فمات، وإن الحيات والأفاعي تدخل في أفواه القرب؛ علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث أن له مذهباً وإن جهلته). وفي هذا الحديث: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بما يحفظ على الناس صحتهم ويقيهم من العدوى والأمراض. قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: إذا بلغَك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياكَ أن تقول بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مُبلِّغاً عن الله تعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم داعي العباد إلى الجنة، ضرَب نفرٌ من الملائكة مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَاراً، وجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وبَعَثَ دَاعِياً، فمَن أجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وأَكَلَ مِنَ المَأْدُبَةِ، ومَن لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ ولَمْ يَأْكُلْ مِنَ المَأْدُبَةِ، قالوا: فَالدَّارُ الجَنَّةُ، والدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمَن أطَاعَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقَدْ أطَاعَ اللَّهَ، ومَن عَصَى مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقَدْ عَصَى اللَّهَ عز وجل) فلنحذر يا عباد الله من أقوال الزائغين المشككين الذين يردون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرخي آذاننا لشبهاتهم؛ فإنهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.  ولنرب أولادنا وبناتنا على تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بها؛ فإن الخير والله كل الخير في اتباعها

نسأل الله تعالى أن يرزقنا اتباع كتابه العزيز وسنة نبيه محمد، وأن يجنبنا الزيغ والبدعة والفتنة، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب الدعاء.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أكرمنا بسنة خير البرايا، وجعلها من أكبر النعم وأجل الهدايا، نحمده سبحانه وتعالى ونشكره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفايا، ونشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله كريم الخصال وشريف السجايا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فيا أيها المسلمون: حفظ الله تعالى السنة النبوية بجهود أهل الحديث العدول الثقات الذين ميزوا صحيحها من سقيمها، وبينوا المقبول منها والمردود، فإن السنة النبوية هي المبينة للقرآن الكريم، ومن حفظ الله للقرآن الكريم أن يحفظ السنة النبوية التي تبين مجمله وتفصل أحكامه وتوضح ما يشكل من معانيه. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه القرآن والسنة كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) والحكمة هي السنة النبوية، كما كان صلى الله عليه وسلم يحذر الأمة من الكذب عليه فيقول:( إنَّ كَذِباً عليَّ ليس ككذبٍ على أحدٍ، فمن كذب عليَّ مُتعمِّداً، فلْيتبوَّأْ مقعدَه من النَّارِ)

وقد اهتم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بالسنة النبوية كما اهتموا بالقرآن الكريم، ولكنهم لم يدونوا الأحاديث النبوية في الكتب حتى لا يختلط كلام رسول الله بكلام الله عز وجل واكتفوا بحفظ الأحاديث في صدورهم وتبليغها لمن بعدهم كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظها وتبليغها. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  (نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ منَّا حديثاً فحفِظَهُ حتَّى يبلِّغَهُ غيرَهُ، فرُبَّ حاملِ فقهٍ ليسَ بفَقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ) وقال صلى الله عليه وسلم: (تَسمعونَ ويُسمعُ منْكم ويسمعُ مِمَّن سمعَ منْكم) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم أن يسمعوا منه ثم يسمع منهم التابعون ثم أتباعهم، وهذ هو الذي حصل بتوفيق الله عز وجل حيث جاء التابعون فنقلوا عن الصحابة القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وأمنِوا من اختلاط بعضهما ببعض فشرعوا في تدوين الأحاديث بالأسانيد عمن سمعوها من مشايخهم، ثم جاء من بعدهم فاجتهدوا في أمر الأحاديث اجتهاداً عظيماً، ورووا الأحاديث بالأسانيد المتعددة، ولم يكتفوا أن يرووا الحديث من طريق واحد، بل من عدة طرق ليتبين لهم أي خطأ وقع من بعض الرواة، وصنفوا كتباً عظيمة في أسماء الرواة، يُعلم منها حال كل راو من رواة الأحاديث ومنزلته في الديانة والحفظ، وكانوا يعرفون منزلة الراوي في الحفظ بمقارنة رواياته برواية زملائه الذين شاركوه في رواية الأحاديث عن شيخهم، فيعلمون بذلك من أتقن حفظ الحديث عن الشيخ ومن زاد فيه أو نقص، وأي خطأ يقع لبعض الرواة في رواية الحديث يتبين لهم خطؤه بهذا الميزان، وهو مقارنة رواية الراوي برواية غيره، وعرفوا بهذه الطريقة الأحاديث الغرائب التي تفرد بروايتها راو واحد ولم يشاركه أحد في روايتها، وحكموا على كل حديث بما يستحق من القبول أو الرد، وبينوا الأحاديث الصحيحة التي يُعتمد عليها، وبينوا الأحاديث الموضوعة التي رواها الكذابون، والأحاديث الضعيفة التي رواها الضعفاء الذين لم يُتقنوا حفظ الأحاديث فأخطئوا في روايتها لضعفهم في الحفظ أو لكونهم لا يُعتمد على ما تفردوا بروايته لجهالتهم أو فسقهم أو غير ذلك مما هو مبين في كتب أهل الحديث الموجودة بين أيدينا.

ومن حكمة الله تعالى أنه لما حفظ القرآن حفظ السنة التي تبين القرآن، فإن الله تعالى أمر بطاعته وطاعة رسوله كما قال في كتابه: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فقد أمرنا الله مثلاً في القرآن بإقامة الصلاة، ولم يبين الله لنا في القرآن كيفيتها وأحكامها، وبين لنا ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته الصحيحة، فبيّن عدد كل صلاة، وما يُقرأ في  القيام وما يُقال في الركوع والسجود، وبيّن صفتها وأحكامها وأنواعها، وهكذا الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من الأحكام، فلا غنى للمسلمين عن السنة النبوية الصحيحة، ولذا حفظ الله للمسلمين السنة النبوية بجهود المحدثين كما حفظ لهم القرآن الكريم بجهود القراء والحفاظ، فالحمد لله الذي أكرمنا بحفظ سنة نبيه بالأسانيد المتصلة الصحيحة وسخر لها العلماء الثقات الذين يميزون بين الصحيح منها وغير الصحيح، ولولا الأسناد لقال من شاء ما شاء، كما قال علماء الحديث، والحمد لله رب العالمين.

اللهمَّ صلِّ وسلم على سيدنا ونبينا محمدٍ وعلى آلِ سيدنا محمدٍ، صلاةً تكونُ لَكَ رضاءً، ولَهُ جزاءً، ولِحَقِّهِ أداءً، وأعطِهِ الوسيلَةَ والفضيلَةَ والمقامَ المحمودَ الذي وعدتَّهُ، واجزِهِ عنا ما هو أهلُهُ، واجزِهِ أفضلَ ما جازيتَ بِهِ نبياً عَنْ قومِهِ ورسولاً عَنْ أمتِهِ، وصلِّ اللهم على جميعِ إخوانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ والشُّهداءِ والصالِحينَ يا أرحمَ الراحِمِينَ.

اللهم أحينا على سنة نبينا محمد، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، وارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه الأوفى، واسقنا من كأسه الأشفى، شربة لا نظمأ بعدها أبداً غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مبدلين، ولا فاتنين ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم احفظ من حفظ سنة نبيك وآوه بمنازل الجنة العليا، واحشره مع الأنبياء والأتقياء.

اللهم ارفع بالسنة شأنه، وارزقه الثبات والأجر العظيم، واجعل نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم شفيعاً له لدخول الجنة.

اللهم أحفظ بلادنا وخليجنا واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم ومستشاريهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير..

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين والمظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً اللهم احقن دمائهم وألف بين قلوبهم، وولي عليهم خيارهم.

اللهم أحفظ بيت المقدس وفلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، وأحفظ المصلين فيه، واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين.

اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة اللهم تقبَّل طاعاتنا، ودعاءنا، وأصلح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتب علينا، واشف مرضانا، واغفر لنا ولموتانا وارحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)