الجمعة 12 ربيع الآخر 1442 هـ
الموافق 27 نوفمبر 2020 م
الحمد لله الذي اختار لنبيّه خيرةَ خلقه من الآل والصّحابة، نحمده سبحانه ونشكره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له وعدَ من دعَاه بالاستجابة، ونشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّداً عبده ورسوله، صاحب الخلق الأوفى وحسن الإنابة، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.
أما بعد:فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سديداً،يصلح لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) معاشر المسلمين: من العقائد المقررة لدينا، ومن أصول الدين المتقررة في مذهبنا وعقيدتنا: حب آل بيت النبي وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتدين لله بالإقرار بفضلهم من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان.. إن الصحابي يا عباد الله هو: كل مسلمٍ لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورآه وآمن به ومات على ذلك، ومن يكتب له شرف الصحبة، لا يتطلب له شروط التعديل، فكفى بشرف الصحبة تعديلاً، هكذا قال علماؤنا رحمهم الله. يقول الإمام النووي رحمه الله: وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عملٌ ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. والإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: فأدناهم صحبةً هو أفضل من القرن الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولو لقوا الله بجميع الأعمال… أولئك هم أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء أو استنقصهم في مقام، فقد ضل وهو على غير سبيل المؤمنين، هم خير الناس للناس، وأفضل تابع لأفضل متبوع، فتحوا القلوب والبلاد بالصدق والإيمان، قبل الرمح والسنان، لم يعرف التاريخ البشري تاريخاً أعظم من تاريخهم، ولا رجالاً دون الأنبياء أفضل منهم ولا أصدق، تأمل سيرهم بعين إنصاف في كتاب الله، وفي الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثابت من آثارهم وأحوالهم، فترى أمراً عجباً من حال القوم، وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة، حين بخل غيرهم بالنفس والمال، وحين قعد غيرهم عن مفارقة الأهل والولدان؛ استرخصوا النفوس والأموال في سبيل الله، وإقامة دين الحق ونصرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، استرخصوا النفوس حتى تمكنت الأمم والشعوب من العيش في أمنٍ وعدل ورغدٍ ورحمة تحت حكم الإسلام، فارقوا الأوطان، وهجروا الخلان، وقتلوا في سبيل الله الأبناء والآباء والإخوان، بذلوا النفوس صابرين، وأنفقوا الأموال محتسبين، وناصبوا من ناوأهم متوكلين، فآثروا رضا الله على الغنى، والذل في سبيل الله على العز، والغربة على الوطن.
هم المهاجرون: الذين قال الله تعالى عنهم: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)
وهم الأنصار: أهل المواساة والإيثار الذين تبوءوا الدار والإيمان،وقال الله في وصفهم: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)
وهم التابعون لهؤلاء السابقين: بِإِحْسَانٍ، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)
أيها الأخوة والأخوات في الله: الله عزّ شأنه وتقدست أسماؤه، عدلهم وأثنى عليهم في آيات من كتابه يطول سردها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن وأفلح في تربيتهم، وأثنى عليهم في أحاديث يعسر حصرها مما يكون القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله إلى تعديل أحدٍ من الخلق:يقول تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ويقول جل وعلا: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) ، فحاشاك -رحمك الله- أن تتوقف في شأن أحدٍ منهم، أو تشك في واحدٍ منهم، فلقد رضي الله عنهم، وعلم ما في قلوبهم، وعفا عنهم، وأنزل السكينة عليهم. يقول صلى الله عليه وآله وسلم:( اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضاً بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ) نعم عباد الله هم خير القرون، وخير الناس، وخير الأمم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير القرون قرني وخير الناس قرني)
هم أمنةٌ للأمة فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم، حلت بمن بعدهم الفتن، وظهرت البدع، وبرز الجور والظلم والفساد… جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنهما قال: (صَلَّيْنَا المَغْرِبَ مع رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْنَا: لو جَلَسْنَا حتَّى نُصَلِّيَ معهُ العِشَاءَ قالَ فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقالَ: ما زِلْتُمْ هَاهُنَا؟ قُلْنَا: يا رَسُولَ اللهِ، صَلَّيْنَا معكَ المَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حتَّى نُصَلِّيَ معكَ العِشَاءَ، قالَ أَحْسَنْتُمْ، أَوْ أَصَبْتُمْ قالَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ، وَكانَ كَثِيرًا ممَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إلى السَّمَاءِ، فَقالَ: النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ ما تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي ما يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتي ما يُوعَدُونَ.
ولقد أحسن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه القول في وصفهم، وهو أحدهم حين قال: (والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله، مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، فإذا أصبحوا والله لكأن القوم باتوا غافلين) وهم في الحقيقة غير غافلين.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد، فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه).
فهم أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قومٌ اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم… فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، اختارهم الله لنبيه أصحاباً، وجعلهم لنا قدوةً وأعلاماً، فحفظوا عن نبيهم ما بلغهم عن ربهم، وما سن وما شرع، وحكم وقضى وندب، وأمر ونهى وأدب، وعوه وأتقنوه، ففقهوا في دين الله وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقيهم عنه، وفهمهم المباشر منه، فشرفهم عزَّ وجلَّ بما منَّ عليهم وأكرمهم، إذ جعلهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب، والغلط والريبة، وسماهم عدول الأمة وأوساطها بمقتضى قوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، فهم عدول الأمة وأئمة الهدى، وحجج الدين، ونقلة الكتاب والسنة، وحملة الشريعة، وقد ندب الله تعالى إلى التمسك بهديهم والسير على منهجهم وسلوك سبيلهم فقال سبحانه: (وَمن يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) فاقرءوا وتأملوا وتدبروا كتاب ربكم لعلكم تعقلون.. أيها المسلم -حفظك الله ورعاك- أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفاخرون بأصحاب وحواريي أنبيائهم، ولا يرضون انتقاصهم، أو الحط من قدرهم، ولا يقبلون الغض من شأنهم وانتقاص منازلهم، وأنت يا تابع محمدٍ صلى الله عليه وسلم أولى بالغيرة على أصحاب نبيك ومعرفة فضلهم وحفظ مكانتهم. بل إن ربنا جعلهم مثلاً لأهل الكتابين -التوراة والإنجيل- فهم خير الأمم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) وأمر نبيه بمشاورتهم لما علمه من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودتهم، وموفور عقولهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصحهم، فقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْر) رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
أيها الأخوة والأخوات في الله: إن كل خيرٍ فيه المسلمون اليوم، إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، ودخول الجنة والنجاة من النار، وانتصار الدين وعلو كلمة الله، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الأكرمون، الذين بلغوا الدين وأحسنوا في الإتباع، وكل مؤمنٍ آمن بالله وبرسوله فللصحابة رضي الله عنهم فضلٌ عليه إلى يوم القيامة، فالقرآن حق، والنبي حق، والسنة حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: ومع هذا المقام الرفيع الذي قد بلغوه، والقدر العالي الذي حازوه، فإنهم متفاوتون في الفضل، متمايزون في الدرجات، بعضهم أرفع من بعض، ومنازل فئة منهم فوق منازل آخرين من الخلفاء الأربعة الراشدين، وبقية العشرة المبشرين، والسابقين الأولين، وأصحاب بدر ، وأهل بيعة الرضوان: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) هذا جانب. وجانب آخر يا عباد الله: فإنهم مع هذا المقام الرفيع الذي بلغه جميعهم، والقدر العالي الذي حازوه كلهم، فإنهم غير معصومين، فالخطأ عليهم جائز، والغلط منهم وارد وواقع، غير أن هذا بابٌ له ضوابط ومدخلٌ له مزالق، فهم تجوز عليهم الذنوب في الجملة الصغائر منها والكبائر، ولكن لهم من السبق في الإسلام، والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشر العلم، وتبليغ الدين، وطمس معالم الشرك وإذلال أهله، والذب عن حرمات الدين بنفوسٍ زكية وأرواحٍ طاهرة ما يكفر الله به عن سيئاتهم، ويرفع درجاتهم، فلقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وعفا عنهم.. يقول الذهبي رحمه الله: فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحدٍ منهم ولا يدعي فيهم العصمة، وما شجر بينهم نسكت عنه، وهم فيه مجتهدون إما مصيبون فلهم أجران وإما مخطئون فلهم أجرٌ واحد، والخطأ -بإذن الله وفضله- مغفور، والثناء عليهم من الله سابق، وما صدر عنهم من الخطأ والاجتهاد لاحق، محتمل التأويل، والمشكوك الموهوم لا يبطل المحقق المعلوم.. وبعد: فهؤلاء يا عباد الله هم صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فاحفظوا لهم حقهم، وتقربوا إلى الله بحبهم، ورطبوا ألسنتكم بذكر محاسنهم:وتدبروا كتاب ربكم القائل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
جعلنا الله تعالى وإياكم من أحباب آل بيته وأصحابه، وحشرنا معهم في جنات النعيم، وهدى الله تعالى إلى الحق من أساء إليهم، وطعن فيهم، إنه سميع مجيب الدعاء.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعــد:فيا أيها المسلمون: إن من سمات أهل الحق والإنصاف، وعلامات أهل الأثر والإتباع، ومقاصد الراغبين في هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، سلامة قلوبهم، وحفظ ألسنتهم للصحابة الأخيار، وحملة الشريعة الأبرار، والذب عن حرماتهم وأعراضهم من لمز الجراحين، وغمز العابثين، وألسنة الحاقدين، واعتقاد فضيلتهم، وصدق خبرهم، وعدالة مسلكهم، والترضي عنهم والترحم عليهم… فاحذر -رحمك الله- أن تكون ممن يغمس لسانه في البهت؛ فيسلُبُ العدالة من الصحب الأطهار، ويلغ في الحرمات، وإياك أن تكون ممن جد وشذّ وتكلّف في جمع المساوئ والعثرات، وجرأ السفهاء والغوغاء على الوقيعة بهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه:(لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لا تسبُّوا أصحابَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فلَمُقامُ أحدِهِم ساعةً خيرٌ مِن عمَلِ أحدِكُم عُمرَهُ). وسمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلاً يَثلِبُ من الصحابة، ويقع فيهم ويطعن عليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: (أمن المهاجرين الأولين أنت؟ قال: لا. قال: أمن الأنصار أنت؟ قال: لا. قال: فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان، الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رءوف رَّحِيمٌ)
وقال بعض السلف رحمه الله : لَمْ يشغَلْكَ ذنبُك، أَمَا لَو شَغَلَك ذنُبك لخِفْتَ رَبك، لقَدْ كَانَ فِي ذنْبِك شُغُل عَنِ المسيئين، فَكيف لَمْ يشغَلْك عَنِ الْمُحْسِنِينَ؟ أما لَو كُنْت من الْمُحْسِنِينَ لما تناولتَ الْمُسِيئين، ولرجوْتَ لَهُمْ أرْحم الرَّاحِمِينَ، وَلَكِنَّك مِن المسيئين، فَمنْ ثَمَّ عِبْتَ الشُّهَدَاء والصَّالحين) فاحفظ -حفظك الله- ثناء الله عليهم وعفوه عنهم ورضاه عليهم، ولا يكن في قلبك غلٌ على أحدٍ منهم، واستوص بهم خيراً، ولا تكن ممن يحترف السب والطعن وسوء الظن؛ فتتعب نفسك وتؤذي غيرك وتركض وراء السراب بشبهة أحاديث ضعيفة أو مكذوبة وموضوعة سنداً ومتناً، وقد تكون أخباراً لها محامل حميدة فتقلبها هفواتٍ ومثالب، وأعيذك بالله تعالى أن تقول: إن نبيك محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يصحبه أصحاب السوء، أو أنه أخفق وعجز ولم يحسن تربية أصحابه، حيث أنهم خانوه وانقلبوا على أعقابهم من بعده والعياذ بالله بينما أنت تمدح غيره من الرموز وتثني عليه لأنه نجح وأفلح في دعوته وتربية أصحابه وأتباعه وهو غير معصوم. ألا فاتقوا الله جميعاً رحمكم الله واحفظوا إيمانكم، وصونوا ألسنتكم عما شجر بين الأصحاب، وأحبوا سلفكم، وربوا أبنائكم وبناتكم على حبهم والترضي عنهم، واحذروا اللعن والسب والطعن في أحد منهم. أو التنقص أو الإهانة أو السخرية من أحدهم، أو الإصغاء للضالين المضلين، قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تسألون عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقال صلى لله عليه وسلم:( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ) ولما سئل الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله،عن القتال الذي حصل بين الصحابة، قال: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا وأيدينا،أفلا نطهر منها ألسنتنا؟ مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:مثل العيون، ودواء العيون، ترك مسها.. وسئل الحسن البصري رحمه الله عن قتال الصحابة فيما بينهم قال:(قتال شهده أصحاب محمد وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا)…
حـبُّ الصحابةِ واجبٌ في دينِنــا
همْ خيرُ قرنٍ في الزّمانِ الأحمَــدِ
ونَكـفُّ عـن أخطائِـهم ونعدُّهـا
أجراً لمجتـهدٍ أتى في المُسنـَــدِ
ونَصونُـهم منْ حاقـدٍ ونَحـوطُهم
بثـنائِنا في كـلِّ جمـعٍ أحشــدِ
قدْ جاءَ في نَصِّ الحـديثِ مُصحَّحاً
اللهَ في صَحبي وصيةَ أحمــــدِ
فبِحبِّـهم حـبُّ الرسـولِ محقـَّقٌ
فاحـذرْ تَنَقُّصَهم وعنْهُ فأبْعـِـــدِ
فاللهُ يجمعُـنا بـهـمْ في جـنَّــةٍ
في مَقـعـدٍ عنـدَ المليـكِ مخلّـدِ
اللهم إننا أحببنا نبيك وآل نبيك المطهرين وصحابته الغر الميامين أصدق الحب وأعمقه، فهبنا يوم الفزع الأكبر لأي منهم، فإنك تعلم أننا ما أحببناهم إلا فيك يا أرحم الراحمين… اللَّهمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ حُبَّكَ، وحب نبيك وحب آل بيته وحب أصحابه، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعمَل الَّذِي يُبَلِّغُنا حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعل حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيّنا مِن أنفسنا، وأَهْلينا، ومِن الماءِ البارِدِ على الظمأ.
اللهم أجعلنا من (ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ) (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، اللهم وفِّق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى ورئيس وولي عهده سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا سميع الدعاء.. اللهم أحفظ بلادنا وبلاد المسلمين والعالم أجمعين من الأوبئة وسيئ الأسقام، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا الوباء، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً.. اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله وأطلق قيده، وفك أسره، وأحي في قلوب المسلمين والمؤمنين حبه ونصرته واجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين… اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا، واشف مرضانا واشف مرضانا وارحم والدينا وارحم موتانا وعلمائنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا مُحمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المُؤمنين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين