كيف نستقبل شهر رمضان
فضيلة الشيخ عدنان بن عبد الله القطان
29 شعبان 1446هـ – 28 فبراير 2025 م
الحمدُ للهِ يمنُّ على عبادِهِ بمواسمِ الخيراتِ، ليغفرَ لهم بذلكَ الذنوبَ، ويكفِّرَ عنهم السيئاتِ، وليضاعفَ لهم به الأجورَ، ويرفعَ الدرجاتِ، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، واسعُ العطايا، وجزيلُ الهباتِ، ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أفضلُ المخلوقاتِ، أتقى النَّاسِ لربِّهِ وأخشاهُم لهُ في جميعِ الحالاتِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسيَ بتقوى اللهِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
معاشرَ المسلمينَ: غداً أو بعدَ غدٍ تكتملُ بإذنِ اللهِ تعالى دورةُ الفَلَكِ، ويُشرِفُ على الدُّنيا هلالُ رمضانَ المباركِ، الذي تهفو إليهِ نفوسُ المؤمنينَ، وتتطلَّعُ شوقًاً لبلوغِهِ؛ لتنتظمَ في مدرستِهِ التي تفتحُ أبوابَها كلَّ عامٍ، فتستقبلَ أفواجَ الصائمينَ والصائماتِ في كلِّ أرجاءِ العالمِ. فمعَ ضجيجِ الحياةِ، وزحامِ الدُّنيا، معَ النزواتِ العابرةِ، والشهواتِ العارمةِ، تأتي مدرسةُ رمضانَ، لتعيدَ للقلوبِ صفاءَها، وللنفوسِ إشراقَها، وللضمائرِ نقاءَها، فيجولُ رمضانُ في أرجاءِ النفسِ؛ ليغرسَ بذورَ الخيرِ والصلاحِ والإصلاحِ.
إنَّنا يا عبادَ اللهِ في عصرٍ يُنشَدُ فيهِ المتاعُ من ألفِ وَجْهٍ، فلنلوِّ الزِّمامَ للباقياتِ الصَّالحاتِ، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).. عبادَ اللهِ: كنَّا نودِّعُ بالأمسِ شهرَ رمضانَ الماضي، وكأنَّ صفحاتهِ قد طُوِيَتْ قبلَ أيامٍ، واليومَ يستقبلُهُ المسلمونَ بعدَ مرورِ عامٍ كاملٍ تقريباً. عامٌ مضى، ذهبتْ لذَّتُهُ، وبقيتْ تَبِعَتُهُ، نُسِيَتْ أفراحُهُ وأتراحُهُ، وبقيتْ حسناتُهُ وسيئاتُهُ.
نعم، عبادَ اللهِ، ستنقضي الدُّنيا بأفراحِها وأحزانِها، وتنتهي الأعمارُ على طولِها وقِصَرِها، ويعودُ النَّاسُ إلى ربِّهم بعدما أمضوا فترةَ الامتحانِ على ظهرِ هذهِ الأرضِ، كما قالَ تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)، ثم تصبحُ الدُّنيا مجرَّدَ ذكرياتٍ عابرةٍ. وهنا مَنْ ينتظرُ رمضانَ على أملٍ، ولا يدري فقد يُباغِتُهُ قبلَ ذلكَ الأجلِ؛ يقولُ تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). أيُّها الإخوةُ والأخواتُ في اللهِ: إنَّ بلوغَ وإدراكَ شهرِ رمضانَ نعمةٌ عظيمةٌ، ومِنَّةٌ جسيمةٌ على مَنْ أقدَرَهُ اللهُ عليه، فاللَّهُمَّ بَلِّغْنا وسلِّمْنا إلى رمضانَ، وسلِّمْ لنا رمضانَ، وتقبَّلْهُ مِنَّا، يا رحمنُ.
نبشِّرُكم إخوةَ الإسلامِ بأشرفِ الشهورِ، الذي يأتي بعدَ طولِ غيابٍ، ويفدُ بعدَ فراقٍ، نبشِّرُكم كما كانَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُبشِّرُ أصحابَهُ فيقولُ: (جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، فِيهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ).
كيف لا يُبشَّرُ المؤمنُ بشهرٍ يفتحُ اللهُ فيهِ أبوابَ الجنةِ؟ كيف لا يُبشَّرُ المذنبُ بشهرٍ يُغلِقُ اللهُ فيهِ أبوابَ النارِ؟ كيف لا يُبشَّرُ العاقلُ بوقتٍ يُغلُّ اللهُ فيهِ الشياطينَ؟ شهرٌ لا تُحصى فضائلُهُ، ولا يُحاطُ بفوائدهِ.
لقد كان شهرُ رمضانَ غُرَّةً في جَبينِ أُمَّتِنا كلَّ عامٍ، فقد كان شهرَ الفُتوحِ؛ فهناك غزوةُ بدرٍ، وفتحُ مكةَ، وفتحُ الأندلسِ، وحطِّين، وغيرها. إلا أنه في زمانِنا هذا مَن يطمسُ نورَ رمضانَ، ويُزيلُ بَهاءَهُ، ويُفسِدُ ثمرتَهُ، ويَنقُضُ حُكمَهُ بأحوالٍ يُرثى لها؛ فمنَ الناسِ هداهم الله مَن يَنشَطُ في شهرِ الصيامِ والقيامِ للسَّفَرِ والسياحةِ، ومِنهم مَن يَهرُبُ في شهرِ القرآنِ منَ الجوِّ الرمضانيِّ مُبارِزًا اللهَ بالمعاصي والغوايةِ، ومِنهم مَن هَمُّهُ كيف يُفرِغُ النهارَ للنَّومِ، والليلَ للسَّهَرِ واللهوِ، ومِنهم مَن يَمتَهِنُ هذا الشهرَ بأخلاقِيَّاتٍ مشينةٍ، فتعاملُهُ غِلظةٌ وفَظاظةٌ، وحديثُهُ غِيبةٌ ونميمةٌ، (فَرُبَّ صائمٍ ليس له من صيامِهِ إلَّا الجوعُ والعطشُ).
أيُّها المؤمنونَ والمؤمنات: كيفَ يُستقبَلُ هذا الوافدُ الكريم؟ يُستقبلُ رمضانُ عبادَ اللهِ بتهيئةِ القلوبِ وتصفيةِ النفوسِ، وتطهيرِ الأعمالِ، وتطهيرِ الأموالِ، والتفرُّغِ من زحامِ الحياةِ. أعظمُ مَطْلَبٍ في هذا الشهرِ إصلاحُ القلوبِ؛ فالقلبُ الذي ما زالَ مُقيماً على المعصيةِ يُفَوِّتُ خيراً عظيماً؛ فرمضانُ هو شهرُ القرآنِ، والقلوبُ هي أوعيةُ القرآنِ ومستقرُّ الإيمانِ، فكيفَ بوعاءٍ لُوِّثَ بالآثامِ، وتدنَّسَ بالمعاصي، كيفَ يتأثَّرُ بالقرآنِ؟! يقولُ الحسنُ البصريُّ رحمهُ اللهُ: (لو طُهِّرَتْ قلوبُكم؛ ما شبعتْ من كلامِ ربِّكم عزَّ وجلَّ). أخي المسلمُ: قدِّمْ بينَ يَدَي رمضانَ توبةً صادقةً، تُصلحُ القلبَ، وتَجلبُ الرَّحماتِ والخيرَ، فإنَّ من أعظمِ ما يعودُ على المسلمِ من النَّفعِ في هذا الشهرِ الكريمِ توبتُهُ وإنابتُهُ إلى ربِّهِ، ومحاسبتُهُ لنفسِهِ، ومراجعتُهُ لتاريخِهِ. فهذا موسمُ التَّوبةِ والمغفرةِ، وبابُ التَّوبةِ مفتوحٌ، وعطاءُ ربِّك ممنوحٌ، وفضلُهُ تعالى يغدو ويروحُ، ولكنْ أينَ التائبُ المستغفرُ؟ يقولُ تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
صَحَّ في الحديثِ عنه ﷺ أنَّه قالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا).
فيا أيُّها المسلمون والمسلمات: هذا الشهرُ فُرصَتُنا للتوبةِ النَّصوحِ، وهذه الأيامُ غنيمةٌ لنا، فهل نُبَادِرُ الغنيمةَ والفُرصةَ؟ صامَ معنا قومٌ العامَ الماضي ثمَّ رُدُّوا لمولاهم الحقِّ، أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ. مَضَوا بأعمالِهِمْ وتركوا آثارَهم، فاللهم اغفرْ لهم وارحمْهم، وأكرمْ نُزُلَهم أجمعين.
عبادَ الله: إنَّ شهرَ رمضانَ هو شهرُ العفوِ والمغفرةِ، لذا يُستَقبَلُ رمضانُ بتهيئةِ النُّفوسِ وتنقيتِها من الضَّغائنِ والأحقادِ والكراهيةِ، التي خَلْخَلَتْ عُرَى المجتمعِ، وأَنهَكَتْ قُوَاهُ، ومزَّقَتِ المسلمينَ شَرَّ مُمَزَّقٍ، وفرَّقَتْ بينَ أبناءِ البيتِ الواحدِ والوطنِ الواحدِ. فالذي يُطلُّ عليه رمضانُ عاقًّاً لوالديه، قاطعاً لأرحامه، هاجراً لإخوانه، أفعالُهُ قطيعةٌ، ودورُهُ في المجتمعِ الإفسادُ والنَّمِيمَةُ، هيهاتَ هيهاتَ أنْ يستفيدَ مِنْ رمضانَ. يقولُ تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). تُرْسخُ حَقِيقَةُ الصِّيَامِ، الْفَضَائِلُ الْجَلِيلَةُ طَبْعاً لَا تَصَنُّعاً، وَسَجِيَّةً لَا تَكَلُّفاً، وَتُبْقِيَهَا لَازِمَةً لَا تُفَارِقُ، وَصَافِيَةً لَا تُكَدِّرُ، فَهَلَّا جَعَلْنَا هَذَا الشَّهْرَ الْكَرِيمَ انْطِلَاقَةً لِلسُّمُوِّ وَالتَّرَفُّعِ عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَالْحَذَرِ مِنْ كُلِّ ضَلَالٍ وَزُورٍ؟
رَمَضَانُ، عِبَادَ اللهِ، هُوَ شَهْرُ الْمُوَالَاةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُوَاسَاةِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُعْوِزِينَ. مِنْ حِكَمِ رَمَضَانَ أَنْ يَتَفَاعَلَ الْمُسْلِمُ مَعَ إِخْوَانِهِ فِي وَطَنِهِ وَفِي شَتَّى بَقَاعِ الْأَرْضِ، وَيَتَجَاوَبَ مَعَ نِدَاءَاتِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَنْكُوبِينَ، مُتَجَاوِزاً بِمَشَاعِرِهِ كُلَّ الْفَوَاصِلِ، مُتَسَلِّقاً بِمَبَادِئِهِ كُلَّ الْحَوَاجِزِ، يَتَأَلَّمُ لِآلَامِهِمْ، يَحْزَنُ لِأَحْزَانِهِمْ، يَشْعُرُ بِفُقَرَائِهِمْ، مُبْتَدِئاً بِالْمُوَالَاةِ وَالْمُوَاسَاةِ مِنْ بَيْتِهِ وَمَوْطِنِهِ، وَلِإِخْوَانِهِ مِنْ بَنِي جِلْدَتِهِ وَصَحْبِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَمُوَاسَاةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْمَنْكُوبِينَ فِي الْعَالَمِ.
يُسْتَقْبَلُ رَمَضَانُ بِنَفْسٍ مُعْطَاءَةٍ، وَيَدٍ بِالْخَيْرِ فَيَّاضَةٍ، يَبْسُطُ يَدَهُ بِالصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ.
عبادَ الله: إنَّ شهرَ رمضانَ هو شهرُ النَّفحاتِ والرَّحماتِ والدَّعواتِ، والمالُ الحرامُ سببُ البلاءِ في الدنيا ويومَ الجزاءِ، لا يُستجابُ معه الدُّعاءُ، ولا تُفَتَّحُ له أبوابُ السَّماءِ لذا يُستَقبَلُ رمضانُ بتطهيرِ الأموالِ من الحرامِ. فما أفظعَها مِنْ حَسْرَةٍ وندامةٍ أنْ تلهَجَ الألسُنُ بالدُّعاءِ، والاستجابةُ مَمنوعةٌ، وربُّنا تباركَ وتعالى يقولُ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
عبادَ الله: رمضانُ مدرسةٌ لتقويةِ الإيمانِ، وتهذيبِ الخُلُقِ، وتقويةِ الإرادةِ.
وإليكم يا مَن أقبلتم على الصِّيام، تِلكَ الأعمالُ التي تزيدُ في إيمانِكم وتُنَمِّي يَقينَكم، منها: الصَّلاةُ بخشوعٍ وخضوعٍ وحضورِ قلبٍ، والمحافظةُ على صلاةِ الجماعةِ، وقراءةُ القرآنِ بتدبُّرٍ وتأمُّلِ آياتِهِ، والعيشُ في ظلالِهِ، واستنشاقُ نَسَماتِهِ، والاهتداءُ بهَدْيِهِ، وذِكْرُ اللهِ عزَّ وجلَّ بالقلبِ واللِّسانِ والجوارِحِ، واللهَجُ بالتَّسبيحِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ والتَّهليلِ، ومُناجاةُ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأسحارِ، والإكثارُ مِنَ الاستغفارِ، وطلبُ العلمِ النَّافعِ، والتفقُّهُ في الدِّينِ. ومِمَّا يزيدُ الإيمانَ: الصَّدقةُ، والبَذْلُ والعطاءُ، والتفكُّرُ في آياتِ البارئِ – تباركَ وتعالى ومطالعةُ آثارِهِ في الكائناتِ، وبديعُ صُنْعِهِ في المخلوقاتِ، ورمضانُ زمنُ صَفاءِ ذهنِ المتأمِّلِ، وإشراقِ فِكرِ المتفكِّرِ، واستنارةِ قلبِ المُعتبِرِ، فهو جديرٌ بالتفكُّرِ في بديعِ صُنْعِ الخالقِ، تبارَكَتْ أسماؤُهُ. يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّ في الجنَّةِ باباً يُقالُ لهُ: الرَّيَّانُ، يدخلُ منهُ الصَّائمونَ يومَ القيامةِ، لا يدخلُ منهُ أحدٌ غيرُهم. يُقالُ: أينَ الصَّائمونَ؟ فيقومونَ، لا يدخلُ منهُ أحدٌ غيرُهم، فإذا دخلوا أُغْلِقَ، فلم يدخلْ منهُ أحدٌ).
فاللهمَّ بلِّغْنا وأهلنا وبلادنا ومن نحب، بلغنا رمضانَ، وأعنَّا فيهِ على الصِّيامِ والقيامِ، وطهِّرْ قلوبَنا، وأصلِحْ ذاتَ بينِنا، واهدِنا سُبُلَ السَّلامِ، يا ربَّ العالمينَ.
نفعني اللهُ وإيَّاكم بالقرآنِ العظيمِ، وبهَدْيِ سيِّدِ المرسلينَ. أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفِروهُ، إنَّهُ هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ رمضانَ سيِّدَ الأيَّامِ والشُّهُورِ وضاعَفَ فِيهِ الحَسَناتِ والأُجُورَ، نَحمَدُهُ سُبحانَهُ وَنَشكُرُهُ وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ، ونَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعيُنِ وَما تُخفِي الصُّدُورُ، ونَشهَدُ أنَّ سيِّدَنا وَنَبيَّنا مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ اللهُ بِالهُدَى وَالنُّورِ، صلَّى اللهُ وَسلَّمَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَمَنِ اقتَفَى أَثَرَهُم إِلَى يَومِ النُّشُورِ.
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَسَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ.
أيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد أَظَلَّنَا زَمَانُ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ، كُنَّا قَد وَعَدنَا أَنفُسَنَا قَبلَهُ أَعوامًا وَمَوَاسِمَ، بِالتَّوبَةِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَعَلَّ بَعضَنَا قَد أَمَّلَ وَسَوَّفَ وَقَصَّرَ، فَهَا هُوَ قَد مُدَّ لَهُ فِي أَجَلِهِ، وَأُخِّرَ وَأُمهِلَ، حَتَّى قَرُبَ مِن شَهرِ رَمَضَانَ، فَمَاذَا عَسَاهُ بَعدَ هَذَا أَن يَفعَلَ؟! نَسأَلُ اللهَ تَعَالَى أَن يُبَلِّغَنَا بِفَضلِهِ هَذَا الشَّهرَ الكَرِيمَ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسلَامِ وَالتَّوفِيقِ لِمَا يُحِبُّ وَيَرضَى.
فَكَم يَا عِبَادَ اللهِ، نَعرِفُ مِن الأَهلِ وَالآبَاءِ وَالأَبنَاءِ وَالإِخوَانِ وَالأَقارِبِ وَالجِيرَانِ، صَامُوا مَعَنَا فِي العَامِ المَاضِي، وَهُمُ الآنَ تَحتَ الجَنَادِلِ وَالتُّرَابِ وَحدَهُم، أَتَاهُمُ المَوتُ، أَتَاهُم هَادِمُ اللَّذَّاتِ، وَمُفَرِّقُ الجَمَاعَاتِ، وَآخِذُ البَنِينَ وَالبَنَاتِ، فَاختَطَفَهُم مِن بَينِ أَيدِينَا، أَسكَتَهُم وَاللهِ فَمَا نَطَقُوا، وَأَردَاهُم فَمَا تَكَلَّمُوا، كَأنَّهُم وَاللهِ مَا ضَحِكُوا مَعَ مَن ضَحِك، وَلا أَكَلُوا مَعَ مَن أَكَلَ، وَلا شَرِبُوا مَعَ مَن شَرِبَ.
فَهَل مِن تَائِبٍ إِلَى اللهِ يَا عِبَادَ اللهِ؟ هَل مِن عَائِدٍ إِلَى رِحَابِ رَبِّهِ؟ وَهَل مِن تَوبَةٍ صَادِقَةٍ؟ وعَودَةٍ حَمِيدَةٍ؟ يَا شَيخاً كَبِيراً احْدَوْدَبَ ظَهرُهُ، وَابيَضَّ شَعرُهُ، وَدَنَا أَجَلُهُ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى المَعَاصِي، مَاذَا أَعدَدتَ لِلِقَاءِ اللهِ؟ وَمَاذَا بَقِيَ لَكَ فِي هَذِهِ الدُّنيَا؟ يَقُولُ سُفيَانُ الثَّورِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (إِذَا بَلَغَ العَبدُ سِتِّينَ سَنَةً، فَليَشتَرِ كَفَنًا وَلِيُهَاجِرْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). وَيَا شَابّاً غَرَّهُ شَبَابُهُ وَطُولُ الأَمَلِ، وَأَسرَفَ عَلَى نَفسِهِ بِالمَعَاصِي، مَاذَا أَعدَدتَ لِلِقَاءِ اللهِ؟ مَتَى تَستَفِيقُ إِن لَم تَستَفِقِ اليَومَ؟ وَمَتَى تَتُوبُ إِن لَم تَتُبْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ؟ وَمَتَى تَعمَلُ إِن لَم تَعمَلْ فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ؟ أَلَا تَرَى قِصَرَ الأَعمَارِ، وَمَوتَ الشَّبَابِ، وَفَجَاءَةَ المَوتِ؟ إِنَّ الوَاجِبَ عَلَينَا جَمِيعاً أَن نَتَّقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَنَتَّخِذَ مِن استِقبَالِ شَهرِنَا مَوقِفَ مُحَاسَبَةٍ وَتَوبَةٍ، وَنُقطَةَ رُجُوعٍ إِلَى اللهِ وَعَودَةٍ إِلَى حِمَاهُ..
فَمَن كانَ تارِكاً لِلصَّلاةِ فَليَتُب، وَمَن كانَ عاصِياً لِلَّهِ فَليَنِب، لِيَهتَمَّ كُلُّ أَبٍ بِبَيتِهِ وَتَربِيَةِ أَبنائِهِ عَلَى تَعالِيمِ الإِسلامِ، فَإِنَّهُ سَيَموتُ وَحدَهُ، وَيُبعَثُ وَحدَهُ، وَيُحاسَبُ عَلَى مَا قَدَّمَتْ يَداهُ. لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسانٍ مِنَّا مِفْتاحاً لِلْخَيْرِ، مِغْلاقًاً لِلشَّرِّ، آمِراً بِالْمَعْرُوفِ، نَاهِياً عَنِ المُنكَرِ، وَلْيَجْعَلْ مِنْ نَفْسِهِ مِشْعَلَ خَيْرٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَحَيِّهِ وَمَنْ حَوْلَهُ وَفِي وَطَنِهِ. لِنَكُنْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنَّا حِينَ قَالَ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
يَا أَسِيرَ الذُّنُوبِ وَالشَّهَوَاتِ هَذَا شَهْرُ التَّوْبَةِ. يَا عَاكِفاً عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ، هَذَا شَهْرُ الطَّاعَةِ. يَا مُدْمِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالنَّظَرِ وَالاسْتِمَاعِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ، هَذَا شَهْرُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ. يَا آكِلَ الرِّبَا، يَا مُتَعَامِلاً بِالرَّشْوَةِ وَآكِلاً أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، يَا سَارِقًاً وَمُخْتَلِساً مِنَ الأَمْوَالِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ، يَا شَارِباً لِلْخَمْرِ وَيَا مُتَعَاطِياً لِلْمُخَدِّرَاتِ، وَيَا عَابِثاً بِأَعْرَاضِ النَّاسِ، هَذَا شَهْرُ الأَوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، هَذَا شَهْرُ صَوْمِ الجَوَارِحِ وَصَوْنِهَا عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ، هَذَا شَهْرُ القُرْآنِ فَاتْلُوهُ، هَذَا شَهْرُ الغُفْرَانِ فَاطْلُبُوهُ، هَذَا شَهْرُ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَالبِرِّ وَالإِحْسَانِ فَافْعَلُوهُ.
اللَّهُمَّ بَلِّغنَا بِرَحمَتِكَ شَهرَ رَمَضَانَ وَأَعِنَّا فِيهِ عَلَى الصِّيَامِ وَالقِيَامِ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكرَامِ.
اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَينَا وَعَلَى بِلَادِنَا وَعَلَى جَمِيعِ المُسلِمِينَ، بِالأَمنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسلَامِ، وَالتَّوفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرضَى…
اللَّهُمَّ قَد أَظَلَّنَا شَهرُ رَمَضَانَ وَحَضَرَ، فَسَلِّمهُ لَنَا وَسَلِّمنَا لَهُ، وَارزُقنَا صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ، وَارزُقنَا الجِدَّ وَالاجتِهَادَ وَالقُوَّةَ وَالنَّشَاطَ، وَأَعِذنَا فِيهِ مِن الفِتَنِ وَالمِحَنِ.
اللَّهُمَّ اجعَلنَا فِيهِ مِنَ المُستَغفِرِينَ، وَاجعَلنَا فِيهِ مِن عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ القَانِتِينَ، وَاجعَلنَا فِيهِ مِن أَولِيَائِكَ المُقَرَّبِينَ، بِرَحمَتِكَ يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمنا في وطننا وفي خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد وفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمعذبين في كل مكان كن لهم ناصراً، ومؤيداً، ومعيناً، وظهيراً. اللهم كن لأهلنا
في فلسطين والأقصى وغزة وفي كل مكان،
اللهم فرج همهم ونفس كربهم، وارفع درجتهم وأخلفهم في أهليهم، وارحم أطفالهم وشيوخهم ونسائهم، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم ورد عنهم كيد الكائدين، وعدوان المعتدين يا رب العالمين
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا وعاف مبتلانا واشف مرضانا، واشف مرضانا وارحم والدينا، وارحم موتانا وارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)