عدنان بن عبد الله القطان
4 ربيع الأول 1444 هـ – 30 سبتمبر 2022 م
—————————————————————————
الحمد لله المتفرِّد بالأسماء الحسنى والصفات العلا، وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً، وأسبَغ علينا آلاءً وأفضالاً ونِعماً، نحمده سبحانه عددَ خلقه، ورضا نفسه، وزنةَ عرشه ومدادَ كلماته، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أعلى الناس منزلةً وقدراً، فتَح اللهُ به أَعُيناً عميًّاً، وآذاناً صُمًّاً، وقلوباً غُلفًاً، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه، خير الأمة سيرةً ونهجاً، وأزكاهم برًّاً وتقوى، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان.
أما بعدُ: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي الزادُ ليوم المعاد، والعُدَّة ليوم التنادِ، فالكيِّس مَنْ حاسَب نفسَه، وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجِزُ مَنْ أَتبَعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)
معاشر المسلمين: لقد أرسل الله تعالى نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم، رحمةً للعالمينَ، ونجاةً لمن آمَن به من المتقينَ، فهو عبدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه ونجيُّه وخليلُه، وأمينُه على وحيه، وخِيرتُه من خَلقِه، النبيُّ الرحيمُ، والرسولُ الكريمُ، صاحبُ المقام المحمود، والحوض المورود، أعلى اللهُ مقامَه، وشرَح صدرَه، ووضَع وِزرَه، ورفَع ذِكرَه، فَضْلُهُ صلى الله عليه وسلم على الأمةِ عظيمٌ؛ فَبِهِ هدانا اللهُ إلى الصراط المستقيم، وأنقَذَنا به من عذاب الجحيم؛ يقول جل وعلا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
ولفضله صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته اختصَّه الله تعالى بالصلاة عليه دونَ سائر أنبيائه ورسله؛ فالربُّ الجليلُ، القويُّ العزيزُ، العظيمُ الحكيمُ، سبحانه جلَّ جلالُه وتقدَّست أسماؤُه، بعظمته وجلاله وقدسيته، يصلي على النبي الكريم؛ يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وصلاةُ اللهِ تعالى على نبيِّه، ثناؤه عليه وتعظيمُه، وذِكْرُ محاسنِه ومناقبِه، وبيانُ محبتِه له، وعظيمِ منزلتِه عندَه، وصلاةُ الملائكةِ وغيرِهم عليه: طلبُ ذلك من الله تعالى، قال أهل العلم رحمهم الله: (صلاةُ اللهِ: ثناؤُه عليه عندَ الملائكةِ، وصلاةُ الملائكةِ الدعاءُ)، فالصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم عبادةٌ عظيمةٌ، وقُربةٌ جليلةٌ، بدَأَها سبحانه بنفسه الكريمة، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقُدسِه، وأمَر بها المؤمنينَ مِن خَلقِه، فَمِنْ حُبِّه سبحانه لنبيِّه، قرَن طاعتَه بطاعته، وحبَّه باتِّباعه، وذِكرَه بذِكرِه، فلا يُذكَر اللهُ جلَّ جلالُه، إلَّا ويُذكَر معه رسولُه صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا خَلَقَ اللهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا؛ أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمَا سَمِعْتُ اللهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ) قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ، وَفِي هَذَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ وَمَقَامٌ رَفِيعٌ، وَجَاهٌ عَرِيضٌ)
فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أداءٌ لبعض حقه، وتذكيرٌ بواجب محبتِه، ومتابعةِ شريعتِه، وزيادةٌ في الحسنات، وتكفيرٌ للسيئات، ورفعٌ للدرجات، قال ابن القَيِّم رحمه الله إنَّ الصلاةَ عليه صلى الله عليه وسلم، أداءٌ لأقلِّ القليلِ مِنْ حقِّه، وشكرٌ له على نعمتِه التي أنعَم اللهُ بها علينا، مع أنَّ الذي يستحقُّه من ذلك، لا يُحصى عِلماً ولا قُدرةً ولا إرادةً، ولكنَّ اللهَ سبحانه لكَرَمِه رَضِيَ من عباده باليسير مِنْ شُكرِه وأداءِ حقِّه)
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، من دلائلِ محبته، والتذكُّرِ الدائمِ لفضلِه، والإيمانِ بالحقِّ الذي جاء به، والعملِ بسُنَّتِه، وتركِ ما نهى عنه، فَمَنْ أحبَّ شيئاً أدام ذِكرَه، ولازَم الثناءَ عليه، ومَنْ صلَّى وسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، جزاه اللهُ من جنس عمله، وكافأه بعَشَرةِ أضعافِ صلاتِه وسلامِه، والسعيدُ مَنْ أثنى عليه ربُّه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ، فَقُلْنَا: إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهِكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ، أَيْ: جِبْرِيْلُ عَلِيْهِ الْسَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ، إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْراً، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْراً)، فعظَّم سبحانه، أجرَ الصلاة على رسوله، وضاعَف ثوابَها، وكرَّم أصحابَها، في الدنيا والآخرة.
فمَنْ أراد أن يفوز بشفاعته، فليُكثِرْ من الصلاة عليه؛ فأَوْلَى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يومَ القيامة، هم أكثرُهم عليه صلاةً في الدنيا، ففي الصحيح قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ، حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ)، فيَشفَع صلَّى اللهُ عليه وسلم، لسبعينَ ألفاً من أُمَّته، فيدخلون الجنةَ من غير حساب ولا عقاب، ويشفع فيمَن دخلوا الجنةَ، أن تُرفَع درجاتُهم فيها، ويَشفَع لعصاة استوجبوا النارَ، فيُنجِّيهم الله تعالى منها، ويشفع في أناس مُوحِّدين، قد دخلوا النارَ بذنوبهم حتى صاروا حُمَماً، فيَخرُجون منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: وحين تجتمع الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد، ويرون من أهوال ذلك اليوم ما تطيش له العقول، وتشيب منه مفارق الصبيان، وأمنية كل مخلوق حينها إدراك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والذي سيقول الله له بعد طول انتظار الخلائق كما صح بذلك الحديث يَا مُحَمَّدُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ).
وأهل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ستدركهم هذه الشفاعة المنشودة، والأمنية المرغوبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَلَّى عَلَيَّ حِينَ يُصْبِحُ عَشْراً، وَحِينَ يُمْسِي عَشْراً أَدْرَكَتْهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ
يَا رَبِّ عَطِّرْ بِالصَّلاَةِ لِسَانِي
وَأَزِلْ بِهَا هَمِّي وفَرِّجْ كُرْبَتِي
حَــرِّمْ بِهَا جَسَدِي عَلَى النِّيرَانِ
عباد الله: إذا صليتم على المصطفى صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة، صلى الله عليكم بها عشراً، كما في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً) وإذا عج لسان العبد بالصلاة على النبي حلت بساحته البركات، وانهالت في ميزانه الحسنات، وطاشت عن صحيفته السيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ) وإذا أردت -يا عبد الله- أن يدعى لك بظهر الغيب، فأكثر من الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم فإنه يدعى لك، لكن ممن ؟ من ملائكة كرام بررة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا صَلَّى عَلَيَّ أَحَدٌ صَلاَةً إِلاَّ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ مَا دَامَ يُصَلِّي عَلَيَّ، فَلْيُقِلَّ عَبْدٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ)
أيها الأخوة والأخوات في الله: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، من آداب الدعاء، وغايةُ ما يدعو به الإنسانُ لنفسه؛ دفعُ الهمومِ والغمومِ، وجَلْبُ المسرَّاتِ والخيراتِ، فكم ضَيَّقَتِ الهمومُ من صدور، وكدَّرَتْ من سرورٍ، لا يَهنَأُ صاحبُها بنومٍ ولا شرابٍ ولا طعامٍ، فساعاتُها أيامٌ، وأيامُها شهورٌ، تُشارِك المريضَ في سريره، وتُزاحِم الغنيَّ في قَصرِه، والفقيرَ في بُؤسِه، والصلاةُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تَكفي الإنسانَ همَّه، وتَغفِر ذنبَه، فمَنْ كُفِيَ همَّه، سَلِمَ مِنْ مِحَنِ الدنيا وعَوارِضها، ومَنْ غُفِرَ ذنبُه، سَلِمَ من كُرَبِ الآخرةِ وأهوالها، فهذا الصحابي الجليل أبيُّ بنُ كعبٍ رضي الله عنه، قد جعَل لنفسه وقتاً يخلو فيه مع ربِّه، يدعوه لحاجاته، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ أَيْ: كَمْ أجعلُ من الصلاةِ عليكَ في دُعائي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شِئْتَ، قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: (مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: (مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: (مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، أَيْ: أَجْعَلُ صلاتي عليكَ، جميعَ الزمنِ الذي كنتُ أدعو فيه لنفسي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ)، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (إذن يكفيك الله ما أهمك، من دنياك وآخرتك)، قال ابن تيمية رحمه الله: (لأن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، ومن صلى الله عليه كفاه همه، وغفر له ذنبه، انتهى كلامه رحمه الله.. والمسلم يا عباد الله يَجمَع بينَ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء، فالصلاة على النبي من أسباب إجابة الدعاء.
إِذَا كُنْتَ فِي هَمٍّ وَضِقْتَ بِحَمْلِـــهِ
وَأَصْـبَحْتَ مَهْمُوماً وَقَلْبُكَ فِي حَرَجْ
فَصَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
كَـثِيـــراً فَـــإِنَّ اللهَ يَأْتِيـكَ بالْفَــــرَجْ
أيها المؤمنون: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم طُهرةٌ مِنْ لغوِ المجالسِ، فالمجالسُ التي لا يُذكَر اللهُ تعالى فيها، ولا يُصلَّى على رسوله صلى الله عليه وسلم، تكون حسرةً وندامةً على أصحابها، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ ومعنى تِرَة: يعني حسرةً وندامةً فطَيِّبوا مجالِسَكم بذِكْر رَبِّكُم والصلاةِ على نبيِّكم واقتَدُوا بهديه وسُنَّتِه وأخلاقِه وشمائلِه تفوزوا بالحياة الطيِّبة في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة… فحق عليك يا عبد الله بعد أن عقلت عن نبيك صلى الله عليه وسلم هذا الفضل، أن يعج لسانك بالصلاة عليه في صبحك ومسائك، في ممشاك وقعودك، في تقلبك واضطجاعك، فما طابت الدنيا إلا بالصلاة عليه، وما ازدانت الحياة إلا بسماع سيرته، والاهتداء بسنته.
فالَّلهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهُ، وأَوْرِدْنَا حَوْضَهُ وَأَنِلْنَا شَفَاعَتَهُ، وَاجْعَلْنَا فِي الجَنَّةِ بِجِوَارِهِ وجوار آله وأصحابه إنه سميع مجيب الدعاء.
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنعَم علينا بالإسلام، وبعَث إلينا نبيَّه خيرَ الأنام، نحمده سبحانه ونشكره، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ونشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صاحبُ الخُلُق العظيم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد فيا أيها المسلمون: إنَّ من فضل الله تعالى على عباده وإجلال منزلة رسوله أن سخَّر ملائكة سياحين، فلا يُصلِّي ويُسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ من أمته إلا بلغوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلاتَه وسلامَه، وإِنْ بَعُدَ مكانُه، وتباعَد زمانُه، يقول صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ، يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وصلوا علي فإنَّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم) وجاءت السنة المباركة تؤكد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها، فإن العمل الصالح يزيد ثوابه بفضل وقته، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ أَرِمْتَ، قَالَ: يَقُولُونَ: بَلِيتَ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ).
فيوم الجمعة أفضل الأيام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنام، فيسن الإكثار من الصلاة على أفضل نبي، في أفضل يوم، فهو صلى الله عليه وسلم سبب لاجتماعهم في صلاتهم، وتأليف قلوبهم.
أيها المسلمون: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كنزٌ عظيمٌ من كنوز الخيرات، وبابٌ واسعٌ من أبواب الطاعات، ومَواطِنُ الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم في الشرع كثيرةٌ، وآكَدُها وأوجبُها عندَ ذِكرِه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فمِنَ البخلِ والتقصيرِ، وعدمِ التوقيرِ، أن يُذكَر البشيرُ النذيرُ، فتُحجِم الألسنةُ عن الصلاة والسلام عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ أمرئ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ) أي: لصق أنفه بالتراب ذلًّاً وهواناً، فمَن ترَك الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم عندَ ذِكره فهو على خطر عظيم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين، وفيه قال جبريل عليه السلام: ومَنْ ذُكِرْتَ عندَه فلم يصلِّ عليكَ فماتَ فدخل النار فأبعَدَه اللهُ، قل: آمين، فقلتُ: آمين)، فما ظنُّك أخي الكريم، بدعاء يدعو به جبريل عليه السلام ويؤمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صيغ كثيرة، جاءت بها السنة المطهَّرة، منها ما ورد في الصحيح عن كَعْب بن عُجْرَةَ رضي الله عنه قال سَأَلْنَا رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللَّهِ، كيفَ الصَّلَاةُ علَيْكُم أَهْلَ البَيْتِ؛ فإنَّ اللَّهَ قدْ عَلَّمَنَا كيفَ نُسَلِّمُ علَيْكُم؟ قالَ: قُولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وتحصل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ أدَّى المراد، إذا كان المرء في غير صلاة، على ألَّا يكون فيها غُلوّ، قال صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ.. واعلموا رحمكم الله أن من أعظم الأذكار، الإكثارَ من الصلاة والسلام على النبيِّ المختارِ، بالعشيِّ والإبكارِ؛ فهي طاعةٌ وقُربةٌ، واقتداءٌ وسُنَّةٌ، والمغانمُ فيها كثيرةٌ، والكلفةُ قليلةٌ، والسعيدُ مَنْ أحيا قلبَه بالصلاة على رسوله، واغتنَم أوقاتَه، بما فيه زيادةُ الحسناتِ، وتكفيرُ السيئاتِ، ورفعُ الدرجاتِ… اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ علَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ؛ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعز الإسلام وانصر والمسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين واحفظ خليجنا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.
اللهم إنَّا نسألُكَ بفضلِكَ ومِنَّتِكَ، وجودِكَ وكرمِكَ، أن تحفَظَنا مِنْ كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وسوء القضاء يارب العالمين.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أحفظ بيت المقدس وأهل فلسطين والمسجد الأقصى، وأحفظ أهله، والمرابطين فيه واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين